فصل: النعت(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


النعت

أنشد فيه‏:‏ وهو الشاهد الثاني والثلاثون بعد الثلاثمائة وهو من أبيات إيضاح أبي علي الفارسي‏:‏ البسيط

ربّاء شمّاء لا يأوي لقلّته *** إلاّ السّحاب وإلاّ الأوب والسّبل

على أن الموصوف قد يحذف في الأغلب مع قرينة دالة عليه، كما في البيت‏.‏ والتقدير‏:‏ هو رجل رباء، هضبة شماء‏.‏ فحذف الموصوف وأقيم الوصف مقامه في الموضعين، فإن رباء فعال، وهو وصف مبالغة من قولهم‏:‏ هو رباء لأصحابه بالهمز، ربأ يربأ، من باب منع، إذا صار ربيئة لهم، أي‏:‏ ديدباناً‏.‏

في الصحاح‏:‏ المربأة‏:‏ المرقبة، وكذلك المربأ والمرتبأ‏.‏ وربأت القوم ربئاً وارتبأتهم، أي‏:‏ رقبتهم، وذلك إذا كنت لهم طليعة فوق شرف، أي‏:‏ موضع مرتفع‏.‏ يقال‏:‏ ربأ لنا فلان وارتبأ، إذا اعتان‏.‏ وربأت المربأة وارتبأتها، أي‏:‏ علوتها‏.‏ والربيء والربيئة‏:‏ الطليعة‏.‏ انتهى‏.‏

وهو فعيل وفعيلة‏.‏ فالرباء وصف مبالغة، والوصف لا بد له من موصوف‏.‏ ومن المعلوم أن الذي يرقب الأعداء لأصحابه إنما هو الرجل في الغالب‏.‏

وقيل‏:‏ إنه من ربأت الجبل، إذا صعدته وعلوته، فيكون رباء شماء، كقولهم‏:‏ طلاع أنجد‏.‏ وهو مضاف إلى شماء، والشماء مجرور بالفتحة، وهو مؤنث أشم، من الشمم، وهو الارتفاع‏.‏ أراد هضبة شماء، فحذف الموصوف، بدليل القلة وهي رأس الجبل‏.‏ والهضبة‏:‏ الجبل المنبسط على وجه الأرض‏.‏

ومن المعلوم أيضاً أن التي لا يأوي إلى قلتها إلا السحاب والمطر لا تكون إلا هضبة‏.‏ وإضافة رباء إلى شماء لفظية‏.‏

وقال السكري في شرح أشعار هذيل‏:‏ إن رباء من ربأت الجبل، إذا صعدته وعلوته، فيكون مثل قولهم‏:‏ طلاع أنجد، لمن هو ركاب للصعاب من الأمور‏.‏

وقال ابن يعيش في شرح المفصل‏:‏ الشاهد في قوله رباء شماء، والمراد رجل رباء ربوة شماء ورابية شماء‏.‏ وهو فعال من قولك‏:‏ ربوت الرابية، إذا علوتها‏.‏ وضعف العين للتكثير‏.‏ والهمزة في آخره بدل من واو هي لام الكلمة، كهمزة كساء، ولم ينونه لأنه مضاف إلى شماء‏.‏ وشماء فعلاء من الشمم، يقال‏:‏ جبل أشم ورابية شماء، أي‏:‏ مرتفعة‏.‏

أقول‏:‏ ليس في هذا كثير فائدة، وهو مع تكلفه يدفعه قوله‏:‏ لا يأوي لقلتها إلا السحاب إلخ‏.‏ فتأمله‏.‏

وحكى الأندلسي في شرح المفصل عن الخوارزمي‏:‏ قلة رباء، وهضبة شماء، لأن الرباء هي العالية، واشتقاقها من الرب لعلوه على المربوب‏.‏

أقول‏:‏ لا وجه لما ذهب إليه الخوارزمي؛ فإن رباء من وصف الربيء لا القلة كما يأتي، وهو فعال لا فعلاء‏.‏

وقال أبو البقاء في شرح الإيضاح لأبي علي‏:‏ أنث رباء لما أراد به الربيئة، وهو الحافظ لأصحابه في الأمكنة العالية‏.‏

أقول‏:‏ هذا خطأ، فإن رباء فعال لا فعلاء‏.‏

ورواه بعضهم‏:‏ زناء شماء بالزاي المعجمة والنون، من زنأ في الجبل يزناً زنئاً وزنوءاً، بمعنى صعد‏.‏ وهو مهموز‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إن شماء اسم هضبة، وهو منقول من الصفة إلى العلمية، مثل حسن، فلا شاهد فيه‏.‏

أقول‏:‏ كون شماء اسم هضبة ذكره أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم قال‏:‏ شماء على لفظ تأنيث أشم‏:‏ هضبة ببلاد بني يشكر‏.‏ قال الحارث بن حلزة في معلقته‏:‏ الخفيف

بعد عهدٍ لنا ببرقة شمّ *** ء فأدنى ديارها الخلصاء

لكن الظاهر هنا أن المراد بشماء اسم جنس، بدليل وصفه بقوله‏:‏ لا يأوي لقلتها الخ‏.‏

فإن قلت‏:‏ أجعل الجملة حالاً من شماء لتعريفها‏.‏

قلت‏:‏ صاحب البيت هذلي، وشماء الهضبة المعروفة في بلاد بني يشكر، مع أن مقام المدح يقتضي أنه يربأ كل جبل موصوف بهذا الوصف، وليس في جعلها علماً كثير مدح‏.‏

وقوله‏:‏ لا يأوي لقلتها الخ هو من أوى إلى منزله يأوي من باب ضرب أوياً بمعنى أقام‏.‏ والمراد لا يصل إلى قلتها‏.‏ وروى السكري‏:‏ لا يدنو لقلتها‏.‏ وضمير قلتها لشماء‏.‏ وقلة الجبل‏:‏ وروى‏:‏ لقنتها بالنون‏.‏ والقنة هي القلة‏.‏

وقوله‏:‏ إلا السحاب هو استثناء مفرغ، أي‏:‏ لا يقرب إلى قلتها شيء إلا السحاب‏.‏ وكر إلا في قوله وإلا الأوب للتوكيد‏.‏ والأوب قال السكري‏:‏ هو النحل حين تؤوب‏:‏ ترجع‏.‏

ويؤيده أنه روى وإلا النوب بضم النون، وهو النحل، وهو جمع نائب لأنها ترعى وتؤوب إلى مكانها، أي‏:‏ ترجع؛ وقيل‏:‏ هو الريح، ذكره الصاغاني في العباب‏.‏

وقال الخوارزمي‏:‏ هو المطر لأنه بخار ارتفع من الأرض ثم آب إليها أي‏:‏ رجع، ولذلك سمي رجعاً، فسموه أوباً ورجعاً تفاؤلاً ليرجع ويؤوب‏.‏ وقيل لأن الله تعالى يرجعه وقتاً فوقتاً‏.‏

وإليه ذهب صاحب الكشاف عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسَّماءِ ذاتِ الرَّجْع‏}‏ وأنشد هذا البيت على أن المطر تسمى رجعاً كما في الآية، وأوباً كما في البيت، تسمية بمصدري رجع وآب‏.‏ وذلك أن العرب كانت تزعم أن السحاب يحمل الماء من البحر ثم يرجعه إليه‏.‏

قال صاحب الكشف‏:‏ جعل صاحب الكشاف الأوب والسبل بمعنى المطر، والأولى ما قيل أن الأوب النحل، لأنها تؤوب إلى محالها بعدما خرجت للنجعة والسبل‏.‏ بفتحتين‏:‏ المطر المنسبل، أي‏:‏ النازل‏.‏

قال ابن خلف في شرح أبيات الكتاب‏:‏ السحاب اسم عام للغيم والماء ينسحب في الأفق، أي‏:‏ ينجر، نازلاً ماؤه وغير نازل‏.‏ والسبل‏:‏ المطر النازل، فهو إذن أخص من السحاب، ولذلك جاء قوله تعالى‏:‏ فترى الودق يخرج من خلاله، لما كان الودق الماء النازل نفسه‏.‏

وهذا البيت آخر قصيدة عدتها عشرون بيتاً للمتنخل الهذلي، تقدمت ترجمته في الشاهد السادس والسبعين بعد المائتين، رثى بها ابنه أثيلة بضم الهمزة وفتح المثلثة‏.‏ وهذان البيتان قبله‏:‏

أقول لمّا أتاني النّاعيان به *** لا يبعد الرّمح ذو النّصلين والرّجل

رمحٌ لنا كان لم يفلل ننوء به *** توفى به الحرب والعزّاء والجلل

ربّاء شمّاء لا يدنو لقلّتها‏.‏‏.‏ ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

قوله‏:‏ الناعيان به، في الصحاح‏:‏ الناعي الذي يأتي بخبر الموت‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ كانت العرب إذا مات فيهم ميت له قدر، ركب راكب فرساً وجعل يسير في الناس، ويقول‏:‏ نعاء فلاناً، أي‏:‏ انعه واظهر خبر وفاته‏.‏ وهي مبنية على الكسر مثل نزال‏.‏

وقوله‏:‏ به أي‏:‏ بنعيه، حذف المصدر لدلالة الناعيات عليه‏.‏ والمصدر جاء على نعي بفتح فسكون، ونعي على وزن فعيل، ونعيان بضم النون‏.‏ والضمير راجع إلى أثيلة المقتول، وهو ابن المتنخل‏.‏

وذلك أنه كان خرج مع ابن عم له يقال ربيعة بن الجحدر غازيين، فأغارا على طوائف من فهم بن عمرو بن قيس عيلان، فقتل أثيلة وأفلت ربيعة، فقال المتنخل هذه القصيدة في رثاء ابنه‏.‏

وقوله‏:‏ لا يبعد الرمح فاعل يبعد، يقال‏:‏ بعد بعداً من باب فرح فرحاً، إذا هلك‏.‏ وعادة العرب أن تقول عند ذكر الميت‏:‏ لا يبعد فلان‏!‏ إما استعظاماً لموته، وإما رجاء بقاء ذكره‏.‏ ويأتي شرح هذا مبسوطاً إن شاء الله بعد أبيات‏.‏ والنصل‏:‏ حديدة الرمح الذي يطعن به، وهو السنان، ويقال لحديدة السهم والسيف والسكين أيضاً‏.‏

والحديدة التي يركز بها الرمح في الأرض من الطرف الأسفل يقال لها الزج، بضم الزاي المعجمة وتشديد الجيم‏.‏ وسمي الزج نصلاً بالتغليب فقال‏:‏ النصلين، وإنما غلب على الزج لأن العمل للنصل، وإذا كان للرمح زج كان أمكن للطعن به‏.‏ وأراد به رمح المقتول‏.‏

وقوله‏:‏ والرجل أراد الرجل الكامل في الشجاعة والفعل وهو ابنه، وقيل‏:‏ أراد بالرمح ابنه، شبهه بالرمح الذي له نصل وزج، ويؤيده قوله رمح لنا، أي‏:‏ هو رمح لنا‏.‏ وضمير كان راجع إليه، وجملة لم يغلل خبرها، أي‏:‏ لم يكسر ولم يثلم، من الفل بفتح الفاء، وهو واحد الفلول، وهي كسور في الشيء‏.‏

وقوله‏:‏ ننوء به، أي‏:‏ ننهض به‏.‏ يقال‏:‏ ناء بكذا، أي‏:‏ نهض به مثقلاً‏.‏

وقوله‏:‏ توفى به الحرب أي‏:‏ تعلى به وتقهر‏.‏ وهو بالفاء، وروي بالقاف أيضاً من الوقاية‏.‏

والعزاء بفتح العين وتشديد الزاء المعجمة‏:‏ السنة الشديدة‏.‏ والجلل بضم الجيم وفتح اللام‏:‏ جمع جلى، وهو الأمر الجليل العظيم، مثل كبرى وكبر، وصغرى وصغر‏.‏

وفي هذا القصيدة أبيات من الشواهد، فينبغي أن نورد بقيتها مشروحة إجمالاً‏.‏ وهذا مطلع القصيدة‏:‏

ما بال عينك أمست دمعها خضل *** كما وهى سرب الأخراب منبزل

هذا خطاب مع نفسه‏.‏ وخضل‏:‏ ندي‏.‏ ووهى السقاء، إذا تخرق وانشق‏.‏ والأخراب‏:‏ جمع خربة بالضم، وهي عروة المزادة وكل ثقب مستدير‏.‏ وسرب بفتح فكسر‏:‏ السائل، يقال‏:‏ سربت المزادة من باب فرح، إذا سالت‏.‏ ومنبزل‏:‏ منشق‏.‏ وقد أخذ ذو الرمة مطلع قصيدته من هذا فقال‏:‏ البسيط

ما بال عينك منها الماء ينسكب *** كأنه من كلى مفريّة سرب

والكلى‏:‏ جمع كلية بالضم، وهي جليدة مستديرة تحت عروة المزادة تخرز مع الأديم‏.‏

لا تفتأ الليل مع دمعٍ بأربعةٍ *** كأنّ إنسانها بالصّاب مكتحل

لا تفتأ‏:‏ لا تزال، يقال‏:‏ جاءنا وعيناه بأربعة، أي‏:‏ بأربعة مدامع ومسايل، أي‏:‏ تسيل من نواحيها من المأقين واللحاظين‏.‏ والصاب‏:‏ شجر له لبن مر إذا أصاب لبنه العين حلبها‏.‏

تبكي على رجلٍ لم تبل جدّته *** خلّى عليك فجاجاً بينها خلل

لم تبل جدته‏:‏ لم تستمتع بشبابه، من الإبلاء‏.‏ وروي لم تبل جدته من البلى وجدته فاعل‏.‏ وفجاجاً، أي‏:‏ طرقاً‏.‏ بينها خلل، أي‏:‏ فرجة، أي‏:‏ كان يسدها‏.‏ ومعنى خلى تركها‏.‏ يريد أنه لم يمتع منه، كما قال ابن أحمر‏:‏ الطويل

لبست أبي حتّى تملّيت برهةً *** وبلّيت أعمامي وبلّيت خاليا

فقد عجبت وما بالدّهر من عجبٍ *** أنى قتلت وأنت الحازم البطل

أي‏:‏ كيف قتلت مع كونك شجاعاً حازماً‏.‏ يقول‏:‏ لا تعجب من الدهر، فإن البطل يقتل فيه، والضعيف ينجو فيه، وفيه أمور مختلفة‏.‏

ويلمّه رجلاً تأبى به غين *** إذا تجرّد لا خالٌ ولا بخل

هذا البيت من شواهد أدب الكاتب لابن قتيبة‏.‏ قوله‏:‏ ويلمه رجلاً هذا مدح خرج بلفظ الذم، يروى بكسر اللام وضمها‏.‏ ورجلاً تمييز للضمير‏.‏ وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في باب التمييز‏.‏ وتأبى مضارع أبى، بمعنى تكره، والجملة صفة رجلاً‏.‏

والغبن بفتح الباء‏:‏ الخديعة في الرأي، وفعله من باب فرح‏.‏ وبسكونها‏:‏ الخديعة في الشراء والبيع، وفعله من باب ضرب‏.‏ يقول‏:‏ تأبى أنت أن تقبل به نقصاناً‏.‏

ومعنى التجرد ها هنا التشمر للأمر والتأهب له‏.‏ وأصل ذلك أن الإنسان يتجرد من ثيابه‏.‏ يقول‏:‏ إذا حاول فعل أمر والدخول في حرب، فصار مثلاً لكل من جد في الشيء وإن لم يتجرد من ثيابه‏.‏

يقول‏:‏ إذا أتيته قام معك وتجرد وجد‏.‏ وقوله‏:‏ لا خال ولا بخل فيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ الخال الاختيال والتكبر، فخال مبتدأ محذوف الخبر، أي‏:‏ لا فيه تكبر ولا بخل، وهو خبر بتقدير مضاف لمبتدأ محذوف، أي‏:‏ لا هو ذو خال‏.‏

وثانيهما‏:‏ الخال المتكبر، ذكر المصدر وأريد الوصف مبالغة، وهو وصف وأصله خول، فانقلبت الواو المكسورة ألفاً كقولهم، رجل مال ويوم راح، وأصلهما مول وروح‏.‏

ويؤيده أنه روي ولا بخل بكسر الخاء‏.‏ فخال خبر مبتدأ محذوف، اي‏:‏ لا هو خال، ولا ذو بخل، فيقدر في بخل مضاف لأنه مصدر‏.‏ وإن أطلق على الوصف مبالغة فلا تقدير‏.‏

السّالك الثغرة اليقظان كالئه *** مشي الهلوك عليها الخيعل الفضل

أي‏:‏ هو السالك‏.‏ ويجوز نصبه على المدح، أي‏:‏ أعني السالك؛ والثغرة بالضم والثغر بمعنى واحد، وهو موضع يخاف دخول العدو منه‏.‏ وكالئها‏:‏ حافظها‏.‏ والهلوك من النساء‏:‏ التي تتهالك في مشيتها، أي‏:‏ تتبختر وتتكسر، وقيل‏:‏ هي الفاجرة التي تتواقع على الرجال‏.‏ والخيعل، بفتح الخاء المعجمة‏.‏

قال السكري‏:‏ هو ثوب يخاط أحد شقيه ويترك الآخر‏.‏ والفضل هو الخيعل ليس تحته إزار‏.‏

وقال ابن الشجري‏:‏ الخيعل القميص الذي ليس له كمان، وقيل‏:‏ ولا دخاريص له‏.‏ ويقال‏:‏ امرأة فضل بضمتين، إذا كان عليها قميص ورداء وليس عليها إزار ولا سروايل‏.‏

وفي العباب‏:‏ المفضل والفضل بضمتين‏.‏ وفي هذا عن الفراء، كالخيعل تلبسها المرأة في بيتها، والمرأة فضل بضمتين إذا لبسته‏.‏

قال الأعشى‏:‏ البسيط

ومستجيبٍ تخال الصّنج يسمعه *** إذا ترجّع فيه القينة الفضل

المستجيب‏:‏ العود، شبه صوته بصوت الصنج، فكأن الصنج دعاه‏.‏ يقول‏:‏ هو الذي من شأنه سلوك موضع المخافة، يمشي متمكناً غير فروق ولا هيوب، كمشي المرأة المتبخترة الفضل‏.‏

قال ابن الشجري في أماليه‏:‏ الوجه نصب الثغرة بالسالك، كقولك‏:‏ الضارب الرجل، ويجوز خفضها على التشبيه بالحسن الوجه‏.‏ واليقظان صفة الثغرة نصبته وخفضتها، وارتفع به كالئها، وجاز ذلك لعود الضمير على الموصوف‏.‏

وقوله‏:‏ مشي الهلوك منصوب بتقدير‏:‏ تمشي مشي الهلوك، وإن شئت نصبته بالسالك؛ لأن السالك يقطع الأرض بالمشي‏.‏ انتهى‏.‏

وقال العيني‏:‏ لا يجوز نصبه بالسالك، لأنه موصوف باليقظان، ولا تعمل الصفة بعد وصفها‏.‏

أقول‏:‏ هذا سهو منه، فإنه قال اليقظان صفة الثغرة كما نقلنا‏.‏

والفضل نعت للهلوك على الموضع، لأنها فاعلة للمصدر الذي أضيف إليها والتقدير تمشي كما يمشي الهلوك الفضل‏.‏

وبه أنشد ابن الناظم في شرح الألفية‏.‏ وزعم جماعة أنه مرفوع على المجاورة للمرفوع الذي هو الخيعل‏.‏ وهذا شيء لم يقل به أحد من المحققين‏.‏ وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى بأوسع من هذا في آخر هذا الباب‏.‏

وعلى تفسير الفراء والسكري للفضل بكون صفة للخيعل‏.‏

وقد تكلم أبو علي في الإيضاح الشعري على المصراع الأول بغير ما ذكرنا تمريناً للطالب، أحببنا ذكره هنا، قال‏:‏ إن نصبت كالئها لم يجز أن تجعلها حالاً من السالك، وأنت قد وصفته باليقظان، لأن حينئذ تفصل بين الصلة والموصول، ولكن يجوز أن تنصبه حالاً عما في يقظان، كأنه يتيقظ في حال حفظه إياها‏.‏ ويجوز إذا نصبت كالئها أيضاً أن تجعله بدلاً من اليقظان‏.‏

فإن قلت‏:‏ أفيجوز إذا نصبت كالئها أن أجعل الكالئ حالاً من الموصول الذي هو السالك، على أن لا أجعل اليقظان صفة للألف واللام، ولكن أجعله صفة للثغرة، فلا يلزم حينئذ إذا جعلته حالاً أن أكون قد فصلت بين الصلة والموصول‏.‏

فالجواب أن وصف الثغرة باليقظان ليس بالسهل، لأن اليقظان من صفة الرجل دون الثغرة، وهو مع ذلك مذكر، والثغرة مؤنث‏.‏

فإن قلت‏:‏ فهل يجوز أن أحمل على الاتساع فأقول‏:‏ ثغرة يقظان، وأنا أريد يتيقظ فيها لشدة خوف السالك لها، كما أقول‏:‏ ليل نائم أريد أنه ينام فيه، وأحمل التذكير على المعنى، لأن الثغرة والثغر والموضع واحد في المعنى‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنك إن حملته على هذا لم يمتنع أن يكون كالئها حالاً من اللام التي في السالك المنتصب‏.‏

وإن جعلت اليقظان على هذا الذي ذكرته من الاتساع جاز أيضاً في الكالئ أن تجعله حالاً مما في السالك، مما يعود إلى اللام‏.‏

ألا ترى أنك إذا جعلت اليقظان وصفاً للثغرة ولم تجعله صفة للام لم تتم الصلة، وإذا لم تتم ولم يكن في الكلام شيء يؤذن بتمامها من صفة له وعطف عليه وتأكيد يتبعها، لم يمتنع أن تجعل كالئها حالاً من الضمير كما وصفنا‏.‏ فإن رفعت كالئها ورفعت السالك، جاز أن يكون السالك ابتداء مثل الضارب هنداً حافظها‏.‏

فإن نصبت السالك ورفعت كالئها كان ارتفاع كالئها باليقظان كأنه قال‏:‏ السالك الثغرة المتيقظ كالئها، كأنه ثغر مخوف، يحتاج حافظه أن يكون متيقظاً حذراً لا يغفل ولا يدع التحرز من شدة الخوف فيها‏.‏

ويجوز أن ترفع اليقظان وتنصب السالك وكالئها، فيكون اليقظان بدلاً من الذكر العائد إلى الألف واللام في السالك، فيكون كالئها حالاً من السالك‏.‏ انتهى كلام أبي علي‏.‏

وبعد خمسة أبيات قال‏:‏

فاذهب فأيّ فتىً في النّاس أحرزه *** من حتفه ظلمٌ دعجٌ ولا جبل

هذا الاستفهام معناه النفي، ولذلك عطف عليه قوله ولا جبل‏.‏

وبهذا المعنى استشهد العلماء بهذا البيت، منهم الفراء في تفسيره عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما لنَا أنْ لا نُقاتِل‏}‏، وقال‏:‏ هذا البيت مما حمل على معنى هو مخالف لصاحبه في اللفظ، أي‏:‏ ليس يحرز الفتى من يومه ظلم دعج ولا جبل‏.‏ قال‏:‏ ومثله قول الشاعر‏:‏ الطويل

ألا هل أخو عيشٍ لذيذٍ بدائم

أي‏:‏ ما أخو عيش‏.‏ ومثله في قراءة عبد الله‏:‏ كيف يكون للمشركين عهد عند الله ولا ذمة، أي‏:‏ ليس للمشركين‏.‏

وقال الكسائي‏:‏ سمعت العرب تقول‏:‏ أين كنت لتنجو مني‏؟‏ أي‏:‏ ما كنت لتنجو مني‏.‏ وذكر له نظائر كثيرة‏.‏

ولهذا أيضاً أورده ابن هشام في مغني اللبيب في الواو العاطفة‏.‏ وأحرزه بمعنى جعله في حرز يمنع من الوصول إليه‏.‏ ومن حتفه متعلق به‏.‏ والحتف‏:‏ الهلاك‏.‏ والظلم بضم ففتحة‏:‏ جمع ظلماء، وهي الليالي السود‏.‏ والدعج‏:‏ جمع دعجاء، وهي الشديدة السواد‏.‏

والعرب تسمي الليلة الأولى من ليالي المحاق الثلاثة في آخر الشهر دعجاء، وهي ليلة ثمانية وعشرين؛ والثانية السرار بالكسر؛ والثالثة الفلتة بالفاء، وهي ليلة الثلاثين‏.‏ والجبل بالجيم والموحدة، وروي الحيل بكسر المهملة، جمع حيلة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الشاهد الثالث والثلاثون بعد الثلاثمائة الوافر

وذبيانيّةٍ أوصت بنيه *** بأن كذب القراطف والقروف

على أن الكذب مستهجنٌ عندهم، بحيث إذا قصدوا الإغراء بشيء قالوا‏:‏ كذب عليك‏.‏ أي‏:‏ عليكم بهما فاغتنموهما‏.‏

وقد بينه الشارح المحقق في باب اسم الفعل، بأوضح من هذا، ونزيد هناك ما قيل فيه، إن شاء الله‏.‏

قال الزمخشري في الفائق عن أبي علي‏:‏ هذه كلمةٌ جرت مجرى المثل في كلامهم، ولذلك لم تصرف، ولزمت طريقةً واحدة في كونها فعلاً ماضياً معلقاً بالمخاطب ليس إلا؛ وهي في معنى الأمر، كقولهم في الدعاء‏:‏ رحمك الله‏.‏

والمراد بالكذب الترغيب والبعث، من قول العرب‏:‏ كذبته نفسه، إذا منته الأماني وخيلت إليه الآمال مما لا يكاد يكون‏.‏ وذلك ما يرغب الرجل في الأمور، ويبعثه على التعرض لها‏.‏ انتهى‏.‏

ومضر تنصب بكذب، وأهل اليمن ترفع به‏.‏ قال ابن السكيت‏:‏ يرفعون المغري به، ومن نصب فعلى الأمر والإغراء‏.‏

وأورد صاحب الكشاف هذا البيت عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَصيَّنَا الإنسانَ بِوَالديه حسْن‏}‏ على أن وصى يجرى مجرى أمر معنىً وتصرفاً‏.‏

والقراطف‏:‏ جمع قرطفٍ كجعفر، وهو القطيفة، أي‏:‏ كساء مخمل‏.‏ والقروف‏:‏ جمع قرف بفتح فسكون، وهو وعاءٌ من جلد يدبغ بالقرفة بالكسر، وهو قشور الرمان، ويجعل فيه الخلع ويطبخ بتوابل فيفرغ فيه‏.‏ والخلع بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام‏:‏ لحم يطبخ بالتوابل ثم يجعل في القرف، ويتزود به في الأسفار‏.‏ والواو واو رب‏.‏

يقول‏:‏ رب امرأة ذبيانية أمرت بنيها أن يستكثروا من نهب هذين الشيئين إن ظفروا بعدوهم وغنموا، وذلك لحاجتهم وقلة مالهم‏.‏ كذا في أبيات المعاني لابن قتيبة وفي نوادر ابن الأعرابي‏.‏

وهذا البيت من قصيدةٍ لمعقر البارقي، مدح بها بني نمير، وذكر ما فعلوا ببني ذبيان بشعب جبلة، وهو يوم كانت فيه وقعة بين بني ذبيان وبين بني عامر، فظهرت بنو عامر على بني ذبيان في ذلك اليوم‏.‏

وبعد هذا البيت‏:‏

تجهّزهم بما اسطاعت وقالت *** بنيّ فكلّكم بطلٌ مسيف

فأخلفنا مودّتها فقاظت *** ومأقي عينها حذلٌ نطوف

وبني‏:‏ منادى، أي‏:‏ يا بني، والفاء في فكلكم فصيحة، أي‏:‏ إن تغزوا فكلكم الخ‏.‏

قال ابن قتيبة وابن الأعرابي‏:‏ المسيف الذي ذهب ماله ووقع في إبله السواف‏.‏ يقال‏:‏ أساف الرجل، أي‏:‏ هلك ماله‏.‏ والسواف بالفتح وقيل بالضم‏:‏ مرض المال وهلاكه‏.‏ يقال‏:‏ وقع في المال سواف، أي‏:‏ موت‏.‏ تعني أن أولادها فقراء‏.‏ تحرضهم على الغنيمة‏.‏

وقوله‏:‏ فأخلفنا مودتها الخ، أي‏:‏ أخلفنا هواها، وخيبنا مأمولها‏.‏ وقاظت، أي‏:‏ أقامت في القيظ، وهو الصيف‏.‏ والحذل بفتح الحاء المهملة وكسر الذال المعجمة‏:‏ الموق الذي فيه بثر وحمرة‏.‏ والمأقي‏:‏ لغة في الموق، وهو طرف العين ناحية الأنف‏.‏ ونطوف، أي‏:‏ سائل‏.‏ يقال‏:‏ نطف الماء ينطف بالضم والكسر، إذا سال‏.‏

ومعقر بضم الميم وفتح العين وتشديد القاف المكسورة، وهو معقر بن أوس ابن حمار، على لفظ واحد الحمير، ابن الحارث بن حمار بن شجنة بن مازن بن ثعلبة بن كنانة بن بارق، وهو لقب، واسمه سعد‏.‏

قال صاحب العباب‏:‏ وبارق أبو قبيلة من اليمن؛ واسم بارق سعد بن عدي بن حارثة بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء الأزدي‏.‏ قيل‏:‏ بارق في الأصل جبل باليمن نزله بنو عدي بن حارثة فسموا به‏.‏

وكان قوم معقر قد حالفوا بني نمير بن عامر في الجاهلية، لدمٍ أصابوه منهم، وشهدوا يوم جبلة وكان معقر قد كف بصره؛ وكان قبل ذلك من فرسان قومه وشعرائهم المشهورين يوم جبلة، وكان قبل الإسلام بتسع وخمسين سنة، قبل المولد الشريف النبوي بتسع عشرة سنة‏.‏ كذا في الأغاني للأصبهاني‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الشاهد الرابع والثلاثون بعد الثلاثمائة الطويل

وليلٍ يقول النّاس من ظلماته *** سواءٌ صحيحات العيون وعورها

كأنّ لنا منه بيوتاً حصينةً *** مسوحاً أعاليها وساجاً كسورها

على أن مسوحاً وساجاً نعتان لقوله‏:‏ بيوتاً‏.‏ وصح النعت بهما مع أن كلاً منهما اسم جوهر، أي‏:‏ جسم، لتأويلهما بالمشتق‏.‏ فالأول يؤول بسوداً، والثاني بكثيفاً‏.‏

قال ابن مالك‏:‏ رفع الأعالي والكسور بمسوح وساج، لإقامتهما مقام سود‏.‏

وقال السيرافي‏:‏ ذهب بمسوح إلى سود، وبساج إلى كثيف‏.‏ انتهى‏.‏

وأورد ابن جني هذا البيت في إعراب الحماسة مع نظائر له ثم قال‏:‏ وهذا يدلك من مذهبها على أنها إذا نقلت شيئاً من موضعه إلى موضع آخر مكنته في الثاني‏.‏ ألا ترى أن هذه الأشياء كلها أسماء في أصولها، ولما نقلتها إلى أن وصفت بها مكنتها وثبتت أقسامها فيه، حتى رفعت بها الظاهر، وحتى أنثتها تأنيث الصفة، وأجرتها على ما قبلها جريان الصفات على موصوفاتها‏.‏

وعكس ذلك ما أخرج من الصفة إلى الاسم فمكن فيه، نحو صاحب ووالد‏.‏ ألا تراهم حموا كلامهم أن يقولوا فيه‏:‏ مررت بإنسان صاحب، حتى صار صاحب بمنزلة جار وغلام‏.‏ انتهى باختصار‏.‏

والمسوح‏:‏ جمع مسح بالكسر، وهو البلاس بكسر الموحدة وفتحها، وهو فارسي معرب أورده الجواليقي في المعربات وهو ينسج من الشعر الأسود‏.‏

قال صاحب الصحاح‏:‏ وأهل المدينة يسمون المسح بلاساً‏.‏ ومن دعائهم‏:‏ أرانيك الله على البلس‏!‏ وهي غرائر كبار من مسوح، يجعل فيها التبن فيشهر عليها من ينكل به وينادى عليه‏.‏

والساج بالجيم‏:‏ ضرب من الشجر لا ينبت إلا بالهند والزنج، يجلب خشبه، وهو أسود‏.‏ وإليه يشير تفسير الشارح له بالكثيف‏.‏ والساج أيضاً‏:‏ الطيلسان الأخضر، وهو ألوان متقاربة يطلق كل منها على الآخر‏.‏ وبهذا المعنى فسر الساج ها هنا‏.‏

قال غلام ثعلب في كتاب اليوم والليلة‏:‏ يقال‏:‏ إن أشعر ما قيل في الظلمة قول مضرس‏.‏ وأنشد هذين البيتين‏.‏ ثم قال‏:‏ يريد الطيلسان‏.‏

وكذلك قال الشريف ضياء الدين هبة الله علي بن محمد بن حمزة الحسيني في الحماسة التي صنفها كحماسة أبي تمام، وزاد عليه أبواباً كثيرة، وأورد فيها أشعاراً جيدة، وقد أجاد في الاختيار والنقد عندما أورد هذا الشعر فيها‏.‏ وعلى هذا يؤول الأول بسوداً كثيفة، والثاني بأسود لطيف‏.‏

وإلى هذا أشار الحصري في زهر الآداب بعدما أورد البيتين بقوله‏:‏ أراد أن أعلاه أشد ظلاما من جوانبه‏.‏ وهذا معلومٌ حساً، فإن الإنسان إذا كان قائماً في الظلام لا يكاد يرى شيئاً، وإذا لطئ بالأرض فربما رأى شيئاً‏.‏

والكسور‏:‏ جمع كسر بكسر الكاف، وهو أسفل شقة البيت التي تلي الأرض من حيث يكسر جانباه، من يمينك ويسارك‏.‏ وفي جميع نسخ الشرح ستورها بدل كسورها والظاهر أنه تحريف من الكتاب‏.‏

والبيوت‏:‏ جمع بيت، قال ابن الأنباري في شرح المفضليات‏:‏ البيت عند العرب هو ما يكون من صوف وشعر، والخيمة لا تكون إلا من شجر‏.‏

وضمير أعاليها وكسورها راجع للبيوت‏.‏ شبه الليل بالبيوت الحصينة، للتحصين بهول الظلام، فإنه لا يقدر أحد أن يهجم على أحد‏.‏

وقوله‏:‏ وليل يقول الناس الخ، من التعليل، سواء خبر مقدم وصحيحات مبتدأ مؤخر، والجملة مقول القول، أي‏:‏ العيون الصحيحة والعيون العور سواء في عدم رؤية شيء لتكاثف الظلام‏.‏

وروي‏:‏ بصيرات العيون والواو في وليل هي واو رب، وجوابها‏:‏ تجاوزته في بيتٍ بعدهما، وهو‏:‏

تجاوزته في ليلةٍ مدلهمّةٍ *** ينادي صداها ناقتي يستجيرها

كأنه أراد بليلة قطعة منها‏.‏ والمدلهمة‏:‏ الشديدة السواد‏.‏

وروي‏:‏

تجاوزته في همّة مشمعلّة

أي‏:‏ سريعة‏.‏ والصدى من طيور الليل، وهو ذكر البوم، وإنما استجار بناقته لتفاقم هول الليل، فأراد أن يصحبها ليأمن‏.‏ والأصل يستجير بها، فحذف ووصل‏.‏

قال الشريف صاحب الحماسة‏:‏ من أحسن ما وصف به سواد الليل هذه الأبيات‏.‏

وقبلها بيتان في وصف اليوم وهما‏:‏

ويومٍ من الشعري كأنّ ظباءه *** كواعب مقصورٌ عليها ستورها

نصبت له وجهي وكلّفت حميه *** أفانين حرجوجٍ بطيءٍ فتورها

أي‏:‏ رب يوم من أيام طلوع الشعري، وهو الكوكب الذي يطلع بعد الجوزاء، وطلوعه في شدة الحر‏.‏ والكواعب‏:‏ جمع كاعب، وهي الجارية التي يبدو ثديها للنهود‏.‏ وقصرت الستر‏:‏ أرخيته‏.‏ شبه الظباء الكانسة من شدة الحر بعذارى أرخي عليهن الستر لئلا يراهن أحد‏.‏

ونصبت له، أي‏:‏ لذلك اليوم‏.‏ ونصب الشيء‏:‏ أقامه، وهو جواب رب‏.‏ وكلف يتعدى لمفعولين أولهما حميه، أي‏:‏ حمي ذلك اليوم، وهو مصدر حميت الشمس والنار مثلاً، إذا اشتد حرهما‏.‏ وثانيهما أفانين، وهو جمع أفنون بالضم، وهو الجري المختلط من جري الفرس والناقة‏.‏ كذا في القاموس‏.‏

والحرجوج، بضم الحاء المهملة وجيمين أولهما مضمومة، وهي الناقة السمينة، وقيل الشديدة، وقيل الضامرة الوقادة القلب‏.‏ وبطيء بالجر صفة سببية لحرجوج، وفتورها فاعل بطيء، والضمير لحرجوج‏.‏ والفتور‏:‏ مصدر فتر من باب دخل، إذا ضعف وتعب‏.‏

وهذه الأبيات لمضرس بن ربعي، وهو بكسر الراء وسكون الموحدة، الأسدي‏.‏ وهو شاعر جاهلي، وهو بضم الميم وكسر الراء المشددة في اللغة الأسد الذي يمضغ لحم فريسته ولا يبتلعه‏.‏ وقد ضرس فريسته تضريساً، إذا فعل بها ذلك‏.‏

وقال أبو عمرو‏:‏ المضرس الذي قد جرب الأمور، وقيل‏:‏ مشتق من الضرس، أي‏:‏ قد نبت له ضرس الحلم‏.‏

وهذا نسبه من المؤتلف والمختلف للآمدي‏:‏ مضرس بن ربعي، بكسر الراء وسكون الموحدة وتشديد الياء المكسور ما قبلها، ابن لقيط بفتح اللام، بن خالد بن نضلة بفتح النون وسكون الضاد المعجمة، ابن الأشتر بن جحوان بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة، ابن فقعس بن طريف بن عمرو بن قعين، بضم القاف، ابن الحارث بن ثعلبة بن دودان، بضم الدال، ابن أسد بن خزيمة‏.‏

وهو شاعر محسن متمكن، وهو القائل‏:‏ الطويل

فلا تهلكنّ النّفس لوماً وحسرةً *** على الشيء سدّاه لغيرك قادره

ولا تيأسن من صالحٍ أن تناله *** وإن كان بؤساً بين أيدٍ تبادره

وما فات فاتركه إذا عزّ واصطبر *** على الدّهر إن دارت عليك دوائره

فإنّك لا تعطي امرأً حظّ غيره *** ولا تعرف الشّقّ الذي الغيث ماطره

وربعي‏:‏ منسوب إلى الربيع‏.‏ وأربع الرجل، إذا ولد له ولد وهو شاب‏.‏

وولده ربعي‏.‏ وأصاف فهو مصيف، إذا ولد له بعدما كبر‏.‏ وولده صيفي‏.‏

قال الراجز‏:‏ الرجز

إنّ بنيّ صبيةٌ صيفيّون *** أفلح من كان له ربعيّون

وذكر الآمدي شاعر آخر اسمه مضرس، وهو مضرس بن قرطة بن الحارث أحد بني صبيح بن عوف بن عوية بن كعب بن عبد ثور المزني، شاعر محسن مقل، وهو القائل‏:‏ الطويل

وأقسم لولا أن تقول عشيرتي *** صبا بسليمى وهو أشمط راجف

لخفّت إليها من بعيدٍ مطيّتي *** ولو ضاع من مالي تليدٌ وطارف

ذكرت سليمى ذكرةً فكأنّم *** أصاب بها إنسان عيني طارف

ألا إنّما العينان للقلب رائدٌ *** فما تألف العينان فالقلب آلف

وليس في الصحابة من اسمه مضرس إلا مضرس بن سفيان بن خفاجة‏.‏ كذا في الإصابة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني

وتمامه‏:‏

فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني

وقد تقدم شرحه مستوفىً في الشاهد الخامس والخمسين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

جاؤوا بمذقٍ هل رأيت الذّئب قطّ

وهذا أيضاً تقدم شرحه مفصلاً في الشاهد السادس والتسعين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الشاهد الخامس والثلاثون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س‏:‏ الكامل

ونظرن من خلل السّتور بأعينٍ *** مرضى مخالطها السّقام صحاح

على أن مخالطها بالجر صفة لأعين‏.‏ قال سيبويه‏:‏ سمعنا العرب تنشد هذا البيت جراً‏.‏ ومراده الرد على يونس في زعمه أن الوصف إذا كان للاستقبال يجب رفعه على الابتداء، ولا يجوز إتباعه لما قبله، فلو كان كما زعم لرفع الوصف، فدل رواية الجر على جواز ما زعمه‏.‏

ونص سيبويه‏:‏ وبعضهم يجعله نصباً إذا كان واقعاً، ويجعله على كل حال رفعاً إذا كان غير واقع‏.‏ هذا قول يونس‏.‏

وكلام سيبويه هنا فيه غموض، وقد لخصه الشارح المحقق وبين المذاهب الثلاثة بألطف عبارة وأظهر بيان، فلله دره، ما أحسن استنباطه وأجود تقريره‏.‏

وهذا البيت من قصيدة لابن ميادة، وقبله‏:‏

وارتشن حين أردن أن يرمينن *** نبلاً بلا ريشٍ ولا بقداح

وقوله‏:‏ وارتشن، أي‏:‏ اتخذن ريشاً لسهامهن‏.‏ وهذا على طريق المثل، جعل أعينهن إذا نظرن بمنزلة السهام التي يرمى بها‏.‏ ونبلاً إما منصوب بارتشن بمعنى رشن، وإما منصوب بإضمار رشن، كأنه قال‏:‏ ارتشن فرشن نبلاً، تقديره اتخذن ريشاً فرشن به نبلاً‏.‏

والقداح‏:‏ جمع قدح بكسر القاف وسكون الدال، وهو عود السهم قبل أن يوضع فيه النصل والريش‏.‏

وروى‏:‏

نبلاً مقذذةً بغير قداح

والمقذذة‏:‏ السهام التي لها قذة بضم القاف وتشديد الذال المعجمة، وهي ريش السهم‏.‏ يريد أن السهام التي أصلحنها ورمين بها ليست بسهام من خشب، وإنما هي أعينهن إذا نظرن بها إلى إنسان‏.‏ وخلل الستور بفتح الخاء المعجمة‏:‏ الفرج التي فيها‏.‏

وأورده الزجاج في معاني القرآن عند قوله تعالى‏:‏ واتخذ الله إبراهيم خليلاً قال‏:‏ والخلل‏:‏ كل فرجة تقع في شيء، فإن معناه نظرن من الفرج التي تقع في الستور‏.‏ انتهى‏.‏

وروي‏:‏ من خلل الخدور جمع خدر بالكسر، وهو الستر‏.‏ وجارية مخدرة، إذا ألزمت الستر‏.‏

أشار إلى أنهن مصونات لا ينظرن إلا من وراء حجاب‏.‏ والعيون المرضى‏:‏ التي في طرفها فتور، وجعل ذلك الفتور والضعف الذي في نظرها بمنزلة السقام فيها وهي صحاح في أنفسها لا علة فيها‏.‏ وإنما يفتر النظر من رطوبة الجسم والنعمة والترفه‏.‏

وصف نساءً يصبن القلوب بفتور أعينهن وحسنهن، فجعل نظرهن كالسهام، ووصف عيونهن بالمرض لفتور جفونهن، ثم بين أن فتورها من غير علة‏.‏ فقوله‏:‏ ونظرن، معطوف على قوله وارتشن، ومن والباء متعلقان به، وذكر لأجل وصفها المذكور، وإلا فالنظر لا يكون إلا بالعين‏.‏ ومرضى‏:‏ جمع مريض، وصف الجمع بالجمع، وجمع مريضة‏.‏ والسقام فاعل مخالط‏.‏ والصحاح بالكسر‏:‏ جمع صحيحة، وهو وصف ثالث‏.‏

وابن ميادة شاعر إسلامي، تقدمت ترجمته في الشاهد التاسع عشر من أوائل الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الشاهد السادس والثلاثون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س‏:‏ الطويل

حمين العراقيب العصا وتركنه *** به نفسٌ عالٍ مخالطه بهر

على أن مخالطه بالرفع صفة لنفس، وبهر فاعله، والإضافة لفظية والتنوين مقدر لنية الانفصال، كالبيت السابق‏.‏

قال سيبويه‏:‏ وإن ألغيت التنوين وأنت تريد معناه جرى مثله منوناً‏.‏ ويدل على ذلك أنك تقول مررت برجل ملازمك فتجر ويكون صفة للنكرة بمنزلته إذا كان منوناً‏.‏

وتقول‏:‏ مررت برجل مخالطٍ بدنه وجسده داء، فإن ألغيت التنوين جرى مجرى الأول إذا أردت ذلك المعنى، ولكنك تلغي التنوين تخفيفاً‏.‏

فإن قلت مررت برجل مخالط داء، وأردت معنى الأول جرى على الأول، كأنك قلت‏:‏ مررت برجل مخالط غياه داء‏.‏ فهذا تمثيل وإن كان يقبح في الكلام‏.‏ فإذا كان يجري عليه إذا التبس بغيره، فهو إذا التبس به أحرى أن يجري عليه‏.‏ انتهى‏.‏

وفي البيت رد على يونس في زعمه أن الصفة إذا كانت للحال وجب نصبها على الحال؛ فإن الرواية برفع مخالطه على الإتباع، مع أنه للحال لا للاستقبال‏.‏

قال سيبويه‏:‏ وأنشد غيره، أي‏:‏ غير ابن ميادة من العرب، بيتاً آخر، فأجروه هذا المجرى، وهو قوله‏:‏ حمين العراقيب العصا وتركنه

والعمل الذي لم يقع والواقع الثابت في هذا الباب سواء، وهو القياس وقول العرب‏.‏ انتهى‏.‏

وظهر من هذا أن قول الشارح المحقق‏:‏ وأنشد غيره، داخل تحت مقول قول سيبويه، وإن كان ظاهر العبارة يوهم أن المنشد غير سيبويه‏.‏

وقوله أيضاً‏:‏ وليونس أن يحمل رفعه على الابتداء، هو تخريج الأعلم في شرح أبيات الكتاب‏.‏ قال‏:‏ ويجوز أن يكون رفعهما على الابتداء والخبر‏.‏

وقول ابن خلف ولم ينصب مخالطه على الحال لأن المخالطة فاعلها البهر، ساقط، وما المانع من كونه حينئذ حالاً سببية، والعراقيب والعصا مفعولان لحمين، وتركنه معطوف على حمين بمعنى فارقنه‏.‏ وجملة به نفس عال الخ حال من الهاء‏.‏ والبهر بالضم‏:‏ تتابع النفس من التعب‏.‏

يعني أنهن سرن سيراً شديداً ففتن الحادي، فحمين عراقيبهن من ضربه بالعصا، فأخذه البهر لشدة عدوه خلفهن‏.‏ وقوله‏:‏ حمين العراقيب جواب إذا في بيت قبله، وهو‏:‏

إذا اتزر الحادي الكميش وقوّمت *** سوالفها الرّكبان والحلق الصّفر

واتزر بمعنى لبس الإزار‏.‏ والحادي‏:‏ سائق الإبل‏.‏ والكميش‏:‏ السريع الماضي‏.‏ وقد كمش بالضم كماشة، فهو كمش وكميش‏.‏ وقومت‏:‏ عدلت‏.‏ والسوالف‏:‏ جمع سالفة وهي الإبل والخيل‏:‏ الهادية، أي‏:‏ ما تقدم من العنق، وهو مفعول مقدم، والركبان فاعل مؤخر، والحلق معطوف على الركبان، وهو جمع حلقة بالتحريك أيضاً، وأراد بها البرة، وهي حلقة من نحاس تجعل في أنف الإبل، لتذليلها‏.‏ والصفر‏:‏ النحاس بضم الصاد وكسرها‏:‏ وصف في هذين البيتين سرعة الإبل‏.‏

وهما من قصيدة للأخطل، وهو شاعر نصراني من شعراء الدولة الأموية ومادحيهم‏.‏

وقد تقدمت ترجمته في الشاهد الثامن والسبعين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الشاهد السابع والثلاثون بعد الثلاثمائة الطويل

قولوا لهذا المرء ذو جاء ساعي *** هلمّ فإنّ المشرفيّ الفرائض

على أن ذو الطائية إنما وقعت وصفاً، وإن كانت على حرفين، لمشابهتها لذو الموضوعة للوصف بأسماء الأجناس‏.‏

وهذا البيت أول أبيات ثلاثة لقوال الطائي، أوردها أبو تمام في الحماسة‏.‏

والساعي‏:‏ الوالي على صدقة الزكاة‏.‏ يقال‏:‏ سعى الرجل على الصدقة يسعى سعياً‏:‏ عمل في أخذها من أربابها‏.‏ وهلم‏:‏ أقبل وتعال‏.‏ المشرفي‏:‏ بفتح الميم والراء هو السيف، نسب إلى المشارف، وهي قرى كانت السيوف تصنع فيها‏.‏ الفرائض جمع فريضة، وهي الأسنان التي تصلح أن تؤخذ في الصدقات‏.‏

قال صاحب الصحاح‏:‏ الفريضة ما فرض في السائمة من الصدقة، يقال‏:‏ أفرضت الماشية، أي‏:‏ وجبت فيها الفريضة، وذلك إذا بلغت نصاباً‏.‏ يقول‏:‏ أبلغا هذا الرجل الذي جاء لأخذ الصدقات تعال فإن لك عندنا السيف بدلاً من الفرائض‏.‏

قال التبريزي‏:‏ وهذا مأخوذ من المثل السائر‏:‏ خذ من جذع ما أعطاك‏.‏ وجذع‏:‏ رجل أتاه مصدق فطلب منه فوق حقه فقتله جذع‏.‏

وإنّ لنا حمضاً من الموت منقع *** وإنّك مختلّ فهل أنت حامض

أي‏:‏ وقولا له‏:‏ إن لنا حمضاً، بفتح المهملة، وهو من النبات ما له ملوحة ومرارة‏.‏ والخلة، بضم المعجمة‏:‏ ما كان حلواً من النبات‏.‏

تقول العرب‏:‏ الخلة خبز الإبل، والحمض فاكهتها، ويقال‏:‏ لحمها‏.‏ ومنه قولهم للرجل إذا جاء متهدداً‏:‏ أنت مختل فتحمض المختل‏:‏ الذي يرعى الخلة‏.‏

قال التبريزي‏:‏ وما في البيت مثل؛ يقول‏:‏ قد مللت العافية والسلامة، فهلم إلى الشر‏.‏ والخلة مثل ضربه للحياة، والحمض مثل ضربه للموت‏.‏ يقول‏:‏ إن ضاق صدرك من الحياة فأتين مصدقاً فإني أقتلك‏.‏ والمنقع بزنة اسم المفعول‏:‏ الثابت‏.‏ يقال‏:‏ انقع له الشر حتى يسأم، أي‏:‏ أدمه‏.‏

أظنّك دون المال ذو جئت تبتغي *** ستلقاك بيضٌ للنّفوس قوابض

المال‏:‏ الماشية، ودون متعلق بأظنك لا بجئت ولا بتبتغي، لأن معمول الصلة لا يتقدم على الموصول، وذو هو المفعول الثاني للظن بمعنى الذي والبيض‏:‏ السيوف‏.‏ أراد التهكم، وقد خلط به التوعد والاستهانة، ولذلك قال‏:‏ أظنك‏.‏ وتبتغي جملة حالية، ومفعوله محذوف‏.‏

والمعنى أحسبك الذي جاء دون المال تبتغي صدقاته، سترى ما أهيئ لك من سويف تنتزع الأرواح‏.‏

وقوال الطائي بفتح القاف وتشديد الواو‏:‏ شاعر إسلامي في آخر الدولة الأموية، وقد أدرك الدولة العباسية‏.‏

وقال هذه الأبيات في مصدق جاء يطلب منهم إبل الصدقة‏.‏ وسببها هو ما رواه أبو رياش في شرح الحماسة‏.‏

وقال‏:‏ كان من خبر هذه الأبيات أن معدان بن عبيد بن عدي بن عبد الله حدث أنه تزوج امرأة من بني بدر بن فزارة، قال‏:‏ وكان شباب من بني بدر يزوروننا، فأدرك الثمار فاجتمعوا على نبيذ لهم مع شباب منا، فأسرع فيهم الشراب، فوقع بينهم كلام، فوثب غلام منا فضرب شاباً من بني بدر فشجه فمات منها، فقلت للبدريين‏:‏ لكم دية صاحبكم‏.‏

فأبوا إلا أن يدفع الطائي إليهم، وأبيت أن أفعل، فأتوا صاحب المدينة في ذلك، وكنا قد منعنا الصدقة حين وقعت الفتنة، فكتب أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ابن عفان عامل صدقة الحليفين‏:‏ طيئ وأسد، إلى مروان الحمار آخر ملوك بني أمية، يخبره بمنعنا الصدقة وقتلنا الرجل، فكتب إليه‏:‏ أن سير إليهم جيشاً‏.‏ وكتب إلي‏:‏ أن مكن البدريين من صاحبهم وأد الصدقة، وإلا فقد أمرت رسولي أن يأتيني بك، وإن أبيت أتاني برأسك، ثم والله لأبيلن الخيل في عرصاتك‏!‏ فأمرت بضرب عنق الرسول‏.‏

فقال الرسول‏:‏ إن الرسول لا يقتل، وإني لأسير فيكم يا معشر طيئ استحياء‏!‏ فقلت‏:‏ قد صدقت، وخليت سبيله، وقلت له‏:‏ قل لمروان‏:‏ آليت تبيل الخيل في عرصاتي وبيني وبينك رمل عالج، وعديد طيئ حولي، والجبلان خلف ظهري، فاجهد جهدك، فلا أبقى الله عليك إن أبقيت‏.‏

وكتب إليه‏:‏ الوافر

ألا من مبلغٌ مروان عنّي *** على ما كان من نأي المزار

ألم تر للخلافة كيف ضاعت *** إذا كانت بأبناء السّراري

إذا كانت بذي حمقٍ تراه *** إذا ما ناب أمرٌ كالحمار

وكتب إليه غالب بن الحر الطائي‏:‏ الطويل

لقد قلت للرّكبان من آل هاشم *** ومن عبد شمس والقبائل تسمع

قفوا أيّها الرّكبان حتّى تبيّنو *** ويأتيكم الأمر الذي ليس يدفع

وحتّى تروا أين الإمام وتشعبو *** عصا الملك إذ أمسى وبالملك مضيع

أرى ضيعةً للمال أن لا يضمّه *** إمامٌ ولا في أهله المال يودع

فكتب إلى عبد الواحد بن منيع السعدي من سعد بن بكر، وإلى أمية بن عبد الله ابن عمرو بن عثمان‏:‏ أن سر بأهل الشام وأهل المدينة وأهل البوادي وقيس وغيرهم، إلى معدان حتى تأخذوا منه الصدقة وتقيدوا البدريين من صاحبهم، وأوطئوا الخيل بلاد طيئ وائتوني بمعدان‏!‏ فسار أمية في ثلاثين ألفاً من أهل المدينة والشام والبوادي، من قيس وأسد، وبعث إلى كل صاحب ذحل ودمنة يطلبها في طيئ، وقدم على مقدمته رجلاً يقال له‏:‏ الحريز بن يزيد بن حمل، من الضباب، وثارت قيس تطلب الثأر من طيئ‏.‏

قال معدان‏:‏ وكنت في اثني عشر ألفاً، فلما انتهيت إلى عسكر أمية إذا جبال الحديد وعسكر لا يرى طرفاه، فرفع طيئ النار على أجأ فاجتمعوا، فنحروا الجزر وعملوا من جلودها درقاً، وطعموا من لحومها‏.‏

فقلت‏:‏ يا بني خيبري ويا معشر طيئ، هو والله يومكم لبقاء الدهر ولهلاك، فإذا وقع النبل عندكم فقبح الله أجزع الفريقين‏!‏ فصاففناهم فرموا بالنبل، ثم شددنا عليهم شدة رجل واحد، فما كان إلا سيف وسيفان حتى قتل الحريز وسرحان مولى قيس‏.‏

واستحر القتل في قيس لأنهم حاموا عن الحريز، وكان يلي المعادن، فقتل من قيس ثلثمائة، وانهزموا أقبح هزيمة وأسوأها، فأتيت بأمية أسيراً فخليت سبيله، وأتيت بجارية له، فأحلقتها به إلى المدينة، وناديت أن لا يتبعوا مدبراً ولا يجهزوا على جريح، وإن الكتاب الذي كتبه مروان لفي أيدينا ما نحسن أن نقرأه، وجدناه في متاعه، حتى قرأه بعض فتياني فإذا فيه‏:‏ اقتل واسب‏.‏ وبالله لو كنت علمت ما في الكتاب ما أفلت منهم صبي‏!‏ فكتب صاحب المدينة إلى مروان يخبره بما صنعت طيئ من قتل الحريز وسرحان، وأسر أمية وقتل ابنه، وما لقيت قيس، ومن أجاب دعوته‏.‏ فوجه مروان من عنده ابن رباح الغساني في عشرة آلاف، فكتب ابن هبيرة إلى مروان بقتل ابن ضبارة وفصول قحطبة متوجهاً من الري‏.‏

فقال‏:‏ ما تصنع بشغل عشرة آلاف في قتال أعراب طيئ‏!‏ فصرفهم إلى ابن هبيرة‏.‏

قال معدان‏:‏ وكتبت إلى قحطبة وبعثت رسولاً فوافقه بهمذان والجيش بنهاوند، فكتب إلي يسدد رايي ويصوب أمري، ويخبر أنه لو قدم الكوفة بعث إلي جنداً‏.‏

ثم كان من أمر قحطبة ما كان، وقال أبو العباس السفاح فقدمت إليه في مائتي رجل من طيئ، فأمر لي بعشرين ألف درهم وخلعة، وأمر لأصحابي بثلاثمائة ثلاثمائة، وخص قوماً نحواً من ثلاثين رجلاً بخمسمائة درهم لكل رجل، ولعشرة منهم بألف لكل رجل، فوالله ما رزأنا مروان ولا جنده ولا عماله شاة ولا بعيراً، وإنا لأول من نقم عليه ونصر آل محمد، حتى انتهى إلينا صاحبنا قحطبة بن شبيب بن خالد بن معدان، ولجأ إلي يومئذ فراراً من الحرب عبد العزيز بن أبي دهبل الجعفري وكنا أخواله، فقال عبد العزيز يمدح معدان في قطعة‏:‏ الطويل

وإنّ امرأً معدان في الحرب خاله *** إذا ما احتنى من دونه لمنيع

وقيلت أشعاراً كثيرة في تلك الوقعة، أورد بعضها أبو تمام في الحماسة‏.‏ وأنشد بعده الشاهد الثامن والثلاثون بعد الثلاثمائة وهو من أبيات سيبويه‏:‏ الطويل

ولا تجعلي ضيفيّ ضيفٌ مقرّبٌ *** وآخر معزولٌ عن البيت جانب

على أنه يجوز القطع إلى الرفع في خبر نواسخ المبتدأ، فإن جعل هنا بمعنى صير من نواسخ المبتدأ والخبر، ينصبهما على المفعولية، وضيفي المفعول الأول وهو في الأصل مبتدأ، وهو مثنى مضاف إلى ياء المتكلم، وضيف مقرب وآخر، بتقدير وضيف آخر، كانا في الأصل منصوبين على أنهما مفعول ثان لجعل، وفرق بينهما بالعطف لأجل وصف كل منهما بصفة تغاير الآخر، فقطعا من المفعولية إلى المبتدأ، فيكون الخبر محذوفاً، أي‏:‏ منها ضيف مقرب، ومنهما ضيف آخر الخ‏.‏ وهما خبران لمحذوف، أي‏:‏ أحدهما ضيف مقرب وثانيهما ضيف آخر الخ‏.‏ وجملة المبتدأ والخبر في محل نصب على أنهما المفعول الثاني لجعل‏.‏

قال سيبويه بعد إنشاده هذا البيت‏:‏ والنصب جيد كما قال الجعدي‏:‏ الطويل

وكانت قشيرٌ شامتاً بصديقه *** وآخر مزرياً عليه وزاريا

قال الأخفش‏:‏ يعني النصب في ضيف على البدل، ورفع جانب بتقدير‏:‏ هو جانب‏.‏

أقول‏:‏ صوابه النصب على أنه مفعول ثان لا على البدل، وشامتاً في البيت نصب على أنه خبر كان‏.‏ ولم يجعل الكلام تبعيضاً، ولو رفع شامتاً لكان التقدير‏:‏ منهم شامت، والجملة حينئذ خبر كان‏.‏

هجا قشيراً، وهي قبيلة من بني عامر، وكانت بينه وبينها مهاجاة، فجعل منهم من يشمت بصديقه إذ نكب، وجعل بعضهم يرزأ بعضاً، للؤمهم واستطالة قويهم على ضعيفهم‏.‏ وبنى مزرياً على تخفيف الهمزة، ولو بناه على الأصل لقال‏:‏ مرزوءاً‏.‏ وجانب بمعنى المجانب والمتنحي‏.‏

والبيت للعجير السلولي خاطب به امرأته‏.‏ يقول لها‏:‏ سوي بين ضيفي في التقريب والإكرام، ولا تكرمي بعضاً وتهيني بعضاً‏.‏

والعجير، بضم العين المهملة وفتح الجيم، كنيته أبو الفرزدق‏:‏ وقال الآمدي في المؤتلف والمختلف هو مولى لبني هلال‏.‏ ويقال‏:‏ هو العجير بن عبد الله بن عبيدة بفتح العين وكسر الموحدة، ابن كعب‏.‏ وأنهى نسبه إلى مرة بن صعصعة‏.‏ قال‏:‏ وهو سلول‏.‏ انتهى‏.‏

وفي الأغاني‏:‏ العجير بن عبد الله بن عبيدة بن كعب، ويقال ابن عبيدة بضم العين واسمه عمير، من بني سلول بن مرة بن صعصعة، أخي عامر بن صعصعة‏.‏ وأم بني مرة سلول بنت ذهل بن شيبان بن ثعلبة، غلبت عليهم وبها يعرفون‏.‏ ويكنى العجير أبا الفرزدق، وأبا الفيل‏.‏ شاعر من شعراء الدولة الأموية، مقل إسلامي‏.‏ انتهى‏.‏

قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل‏:‏ عجير‏:‏ اسم منقول، ويحتمل أن يكون مصغر عجر من قولهم‏:‏ عجر عنقه إذا لواها، ويحتمل أن يكون مصغراً مرخماً، من أعجر، وهو الناتئ السرة‏.‏ وأما سلول فاسم مرتجل غير منقول‏.‏ انتهى‏.‏

وله خبر مع بنت عمه، يأتي إن شاء الله تعالى في باب الجوازم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الشاهد التاسع والثلاثون بعد الثلاثمائة وهو من أبيات سيبويه‏:‏ الطويل

فأصبح في حيث التقينا شريدهم *** طليقٌ ومكتوف اليدين ومزعف

لما تقدم في البيت الذي قبله من أنه يجوز القطع في الرفع في خبر النواسخ، فإن أصبح هنا من أخوات كان، وشريدهم اسمها، وما بعده كان في الأصل منصوباً على أنه خبر أصبح، فقطع عن الخبرية ورفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف، أي‏:‏ منهم طليق، ومنهم مكتوف الخ، وخبر لمبتدأ محذوف، أي‏:‏ بعض الشريد طليق الخ‏.‏ والجملة في محل نصب على أنها خبر أصبح، ويجوز أيضاً النصب كما قال سيبويه؛ فيقال‏:‏ طليقاً ومكتوفاً ومزعفاً‏.‏

فإن قلت‏:‏ أيجوز أن يكون طليق مقطوعاً عن الحالية، ويكون خبر أصبح قوله‏:‏ في حيث التقينا‏؟‏ قلت‏:‏ لا يجوز معنى، فإن المقصود تقسيم الشريد، وتبيين أنواعه بما ذكر، لا أنه ذكر في موضع الالتقاء‏.‏

والشريد واحد يؤدي معنى الجمع؛ لأنه واقع على كل من شردته الحرب، فهو يعم ما ذكر‏.‏

قال الأخفش‏:‏ يريد أصبحوا منهم قتيل، ومنهم مكتوف، لا أن الشريد وحده اجتمع فيه ما ذكره‏.‏

وقال ابن خلف‏:‏ لا يصح أن يكون في حيث التقينا خبر أصبح‏.‏ لأن ظرف الزمان لا يصح أن يكون خبراً عن الجثة‏.‏

وهذا سهو لأن حيث للمكان، لا للزمان‏.‏ والشريد‏:‏ الطريد‏.‏ والطليق‏:‏ الأسير الذي أطلق عنه إساره‏.‏ والإسار، بالكسر‏:‏ القد، ومنه سمي الأسير، لأنهم كانوا يشدونه بالقد، ثم سمي كل أخيذ أسيراً وإن لم يشد به‏.‏ والمكتوف‏:‏ من كتفت الرجل، إذا شددت يديه إلى خلف بالكتاف‏.‏

قال ابن دريد‏:‏ الكتاف بالكسر‏:‏ حبل يشد به وظيف البعير إلى كتفيه‏.‏ والمزعف بالزاي المعجمة والعين‏:‏ اسم مفعول من أزعفته‏.‏

قال الأصمعي‏:‏ أزعفته وأزدعفته، إذا أقعصته‏.‏ يقال‏:‏ ضربه فأقعصه، أي‏:‏ قتله مكانه‏.‏ وقال الخارزنجي‏:‏ أزعفت عليه، إذا أجهزت عليه وتممت قتله‏.‏

وقال الأعلم‏:‏ رواه حملة الكتاب مزعف بكسر العين، ومعناه ذو زعاف، أي‏:‏ ذو صرع وقتل، وليس بجار على الفعل‏.‏

وقال ابن خلف‏:‏ ورواه غيرهم بفتح العين، من أزعفه الموت إذا قاربه، وهو مأخوذ من قولهم‏:‏ موت زعاف وذعاف، اي‏:‏ معجل‏.‏ انتهى‏.‏

وإلى هذا ذهب الشارح المحقق‏.‏ قال الصاغاني في العباب‏:‏ زعفه يزعفه زعفاً من باب منع، أي‏:‏ قتله مكانه‏.‏ وسم زعاف وذعاف بضم المعجمتين، أي‏:‏ قاتل‏.‏

وهذا البيت من قصيدة طويلة عدتها مائة وخمسة وعشرون بيتاً، للفرزدق، وقد تقدمت ترجمته في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب‏.‏ وهي قصيدة افتخارية هجا في آخرها‏.‏

ومنها وهو قبل البيت‏:‏

وأضياف ليلٍ قد نقلنا قراهم *** إلينا فأتلفنا المنايا وأتلفوا

قريناهم المأثورة البيض قبله *** يثجُ العروق الأزانيّ المثقّف

فأصبح في حيث التقينا شريدهم ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

قوله‏:‏ وأضياف ليل، الواو واو رب، والأضياف هنا كناية عن الأعداء الهاجمين عليهم ليلاً‏.‏

قال الصاغاني في مادة تلف، وقد أورد هذا البيت‏:‏ هؤلاء غزي غزوهم‏.‏ يقول‏:‏ فجعلناهم تلفاً للمنايا‏.‏ وجعلونا كذلك، أي‏:‏ وقعنا بهم فقتلناهم، أي‏:‏ صادفنا المنايا متلفة، وصادفوها كذلك، كما تقول‏:‏ أتينا فلاناً فأبخلناه وأجبناه، أي‏:‏ صادفناه كذلك‏.‏ انتهى‏.‏

فالهمزة في أتلفنا للوجدان‏.‏ وغزي في كلامه‏:‏ جمع غاز مثل قاطن وقطين، وحاج وحجيج‏.‏ وهو بضم الغين وتشديد الزاي المفتوحة‏:‏ جمع غاز أيضاً، كسابق وسبق‏.‏

وقوله‏:‏ قريناهم المأثورة الخ يقال‏:‏ قريت الضيف قرى، أي‏:‏ أحسنت إليه‏.‏ وهذا من قبيل الاستعارة التهكمية‏.‏ قال صاحب الصحاح‏:‏ المأثور‏:‏ السيف الذي يقال‏:‏ إنه من عمل الجن‏.‏

قال الأصمعي‏:‏ وليس من الأثر الذي هو الفرند‏.‏ والبيض‏:‏ السيوف، أي‏:‏ البيض المأثورة‏.‏ ونجعت الماء والدم بالجيم إذا سيلته، فالعروق مفعول بتقدير مضاف، أي‏:‏ دم العروق‏.‏ الأزاني فاعل‏.‏

قال صاحب الصحاح‏:‏ ذو يزن ملك من ملوك حمير تنسب إليه الرماح اليزنية، يقال‏:‏ رمح يزني وأزني ويزأني وأزأني‏.‏ والمثقف‏:‏ المعدل‏.‏ والتثقيف‏:‏ التعديل‏.‏

وقوله‏:‏ قبلها، أي‏:‏ قبل المأثورة البيض‏.‏ يقول‏:‏ طاعناهم بالرماح قبل أن جالدناهم بالسيوف‏.‏

وفي هذه القصيدة شاهد آخر يأتي شرحه إن شاء الله تعالى في باب العطف‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الشاهد الأربعون بعد الثلاثمائة الوافر

كأنّ حمولهم لمّا استقلّت *** ثلاثة أكلبٍ متطاردان

على أن بعضهم أجاز وصف البعض دون بعض، محتجّاً بهذا البيت‏.‏

لم أر هذا البيت إلا في كتاب المعاياة للأخفش، وهو على طريقة أبيات المعاني‏.‏ ونصه‏:‏ قال بعضهم‏:‏ إن هذا شعر وضع على الخطأ، ليعلم الذي يسأل عنه، كيف فهم من يسأله‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ لا ولكنه وصف اثنين منها وأخبر عنهما بتطارد، وأجاز مررت برجلين صالح، وصف أحد الرجلين وكف عن الآخر، ومررت بثلاثة رجال صالحين‏.‏ ولا يقول هذا كل أحد‏.‏ وقد يحتمله القياس‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

ويجوز أن يقرأ متطاردان باسم الفاعل، وأن يقرأ يتطاردان بالمضارع‏.‏ وعلى كل منهما هو وصف ثلاثة لكن بإلغاء واحد منها‏.‏ ويشبه هذا قول جرير‏:‏ البسيط

صارت حنيفة أثلاثاً فثلثهم *** من العبيد وثلثٌ من مواليها

قال ابن السيد في شرح كامل المبرد‏:‏ هذا مما عيب عليه، لأنه لم يذكر الثالث‏.‏

قال الآمدي‏:‏ لما قال جرير هذا البيت، قيل لرجل من بني حنيفة‏:‏ من أي الأثلاث أنت‏؟‏ قال‏:‏ من الثلث الملغى‏.‏ انتهى‏.‏

وأراد جرير بالثلث المتروك أشرافهم، وترك الثالث عمداً، لأنه في مقام الذم لا يثبت لهم أشرافاً صراحة‏.‏ والحمول بضم الحاء المهملة والميم، هي الإبل التي عليها الهوادج، كذا في العباب‏.‏

واستقلت‏:‏ ارتفعت‏.‏ واستقل القوم‏:‏ ارتحلوا ومضوا‏.‏ والتطارد والمطاردة أن يحمل بعضهم على بعض في الحرب‏.‏ وأكلب‏:‏ جمع كلب، جمع قلة‏.‏

وفي هذا البيت مبالغة من الهجو، فإن الإبل التي يعدونها عندهم كثيرةً عدتها ثلاثة لا غير، وإنها صغيرة في الجثة جداً، حتى إنها مع ما عليها في مقدار جرم الكلاب، وإنها ليس عليها ما يثقلها من الأثاث والمتاع، ولذلك تطاردت لخفة ما عليها، وإن بعضها هزيل جداً لا يقدر على الطراد‏.‏ هذا ما سنح لي، والله أعلم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ المتقارب

ويأوي إلى نسوةٍ عطّلٍ *** وشعثاً مراضيع مثل السّعالي

على أن الأعرف مجيء نعت النكرة المقطوع بالواو‏.‏

وتقدم عن الشارح في الشاهد الثالث والخمسين بعد المائة أن شعثاً منصوب على الترحم‏.‏ قال سيبويه‏:‏ كأنه حيث قال نسوة عطل صرن عنده ممن علم أنهن شعث، ولكنه ذكر ذلك تشنيعاً لهن وتشويهاً‏.‏

قال الخليل رحمه الله‏:‏ كأنه قال‏:‏ وأذكرهن شعثاً، إلا أن هذا فعل لا يستعمل إظهاره، وإن شئت جررت على الصفة‏.‏ وزعم يونس أن ذلك أكثر، كقولك‏:‏ مررت بزيد أخيك وصاحبك‏.‏ انتهى‏.‏

وفاعل يأوي ضمير الصياد، أي‏:‏ يأتي مأواه ومنزله إلى نسوةٍ بعد أن ذهب إلى الصيد، فيجدهن في أسوأ الحال‏.‏ وعطل‏:‏ جمع عاطل، أي‏:‏ لا شيء عندها‏.‏ والشعث‏:‏ جمع شعثاء، وهي المتغيرة من الجوع ونحوه‏.‏

وتقدم شرحه هناك مفصلاً فليرجع إليه‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الشاهد الحادي والأربعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س‏:‏ الكامل

لا يبعدن قومي الذين هم *** سمّ العداة وآفة الجزر

النّازلين بكلّ معتركٍ *** والطّيّبون معاقد الأزر

على أنه يجوز قطع نعت المعرفة بالواو، كما يجوز قطع نعت النكرة بها‏.‏ فقولها‏:‏ والطيبون نعت مقطوع بالواو من قومي للمدح والتعظيم، بجعله خبر مبتدأ محذوف، أي‏:‏ هم الطيبون‏.‏

وإنما حكم بالقطع مع أنه مرفوع كالمنعوت وهو قومي، لقطع النازلين قبله، لما ذكرنا أيضاً، بجعله منصوباً بفعل محذوف تقديره أعني، وأمدح ونحوهما‏.‏ والعرب إذا رجعت عن شيء لم تعد إليه‏.‏

وقال ابن السكيت في أبيات المعاني‏:‏ قال ابن الأعرابي‏:‏ النازلين تابع لقومي على المعنى، لأن معناه النصب، كأنه قال‏:‏ لا يبعد الله قومي‏.‏

قال سيبويه‏:‏ في باب ما ينتصب على التعظيم والمدح‏:‏ وإن شئت جعلته صفةً فجرى على الأول، وإن شئت قطعته فابتدأته، وذلك قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏لكِن الرَّاسخون في العِلْمِ مِنهُمْ والُمؤْمنونَ يُؤْمِنُون بما أُنزل إليك وما أُنزِلَ مِنْ قبْلِكَ والمُقِيمينَ الصَّلاةَ والمُؤْتونَ الزّكاة‏}‏‏.‏ فلو كان كله رفعاً كان جيداً‏.‏ فأما المؤتون فمحمول على الابتداء‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولكنّ البرّ مَنْ آمَنَ باللَّهِ واليَوْمِ الآخِر والمَلائِكَةِ والكِتَابِ والنَّبِيِّينَ وآتى المالَ على حُبِّه ذَوِي القُرْبَى واليَتَامَى والمَسَاكين‏}‏ إلى قوله‏:‏ وحينَ البأس فلو رفع الصابرين على أول الكلام كان جيداً، ولو ابتدأ فرفعه على الابتداء كان جيداً كما ابتدأت‏:‏ والمؤتون الزّكاة ‏.‏

ونظير هذا من الشعر قول الخرنق‏:‏

لا يبعدن قومي الذي هم البيتين

فرفع الطيبين كرفع المؤتين‏.‏ ومثل هذا في الابتداء قول ابن حماط العكلي‏:‏ البسيط

وكلّ قومٍ أطاعوا أمر مرشدهم *** إلاّ نميراً أطاعت أمر غاويها

الظّاعنين ولمّا يظعنوا أحد *** والقائلون لمن دارٌ نخلّيها

وزعم يونس أن من العرب من يقول‏:‏ النازلون بكل معترك والطيبين‏.‏ ومن العرب من يقول‏:‏ الظاعنون والقائلين، فنصبه كنصب الطيبن، إلا أن هذا شتم لهم وذم، كما أن الطيبين مدح لهم وتعظيم‏.‏

وإن شئت أجريت هذا كله على الاسم الأول، وإن شئت ابتدأته جميعاً، فكان مرفوعاً على الابتداء‏.‏ كل هذا جائز في هذين البيتين وما أشبههما‏.‏ انتهى كلام سيبويه‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ اختلف الناس في إعراب المقيمين فقال بعضهم‏:‏ هو نسق على ما، المعنى‏:‏ يؤمنون بما أنزل إليك وبالمقيمين الصلاة، أي‏:‏ يؤمنون بالنبيين المقيمين الصلاة‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ نسق على الهاء والميم، المعنى‏:‏ لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة يؤمنون بما أنزل إليك‏.‏ وهذا عند النحويين رديء، لا ينسق بالظاهر على المضمر إلا في شعر‏.‏

وذهب بعضهم إلى أن هذا وهم من الكاتب‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ في كتاب الله أشياء ستصلحها العرب بألسنتها‏.‏ وهذا القول عند أهل اللغة بعيد جداً لأن الذين جمعوا القرآن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أهل اللغة وهم القدوة؛ وهم الذين أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمعوه‏.‏

وهذا ساقط عمن لا يعلم بعدهم، وساقط عمن يعلم، لأنهم يقتدى بهم، فهذا مما لا ينبغي أن ينسب إليهم‏.‏

والقرآن محكم لا لحن فيه حتى يتكلم العرب بأجود منه في الإعراب‏.‏ ولسيبويه والخليل وجميع النحويين في هذا باب يسمونه باب المدح، قد بينوا صحة هذا وجودته‏.‏

قال النحويون‏:‏ إذا قلت مررت بزيد الكريم، وأنت تريد أن تخلص زيداً من غيره فالخفض هو الكلام، حتى تعرف زيداً الكريم من زيد غير الكريم‏.‏ وإذا أردت المدح والثناء فإن شئت نصبت وإن شئت رفعت، وجاءني قومك المطعمين في المحل والمغيثون في الشدائد، على معنى أذكر المطعمين وهم المغيثون‏.‏

وعلى هذا الآية؛ لأنه لما قال‏:‏ بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك علم أنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، فقال‏:‏ والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة، على معنى أذكر المقيمين وهم المؤتون‏.‏

وأنشدوا بيت خرنق بنت هفان‏:‏

لا يبعدن قومي الذين هم البيتين

على معنى أذكر النازلين وهم الطيبون، رفعه ونصبه على المدح‏.‏ وبعضهم يرفع النازلين وينصب الطيبين، وكله واحد جائز حسن‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن جني في المحتسب‏:‏ القطع لكونه بتقدير الجملة أبلغ من الإتباع لكونه مفرداً‏.‏ قال في سورة فاطر‏:‏ قرأ الضحاك‏:‏ الحمد للَّهِ فَطَرَ السّموات ‏.‏ وهذا على الثناء على الله سبحانه وذكر النعمة التي استحق بها الحمد‏.‏ وأفرد ذلك في الجملة التي هي جعل بما فيها من الضمير، فكان أذهب في معنى الثناء، لأنه جملة بعد جملة، وكلما زاد الإسهاب في الثناء والذم كان أبلغ‏.‏

ألا ترى إلى قول خرنق‏:‏

لا يبعدن قومي الذين هم البيتين

ويروى‏:‏ النازلون والطيبون، والنازلين والطيبون، والنازلون والطيبين‏.‏ والرفع على هم والنصب على أعني، فلما اختلفت الجمل كان الكلام أفانين وضروباً، فكان أبلغ منه إذا ألزم شرحاً واحداً‏.‏

فقولك‏:‏ أثني على الله أعطانا فأغنى، أبلغ من قولك‏:‏ أثني على الله المعطينا، والمغنينا لأن معك هنا جملةً واحدة، وهناك ثلاث جمل‏.‏

ويدلك على صحة هذا المعنى قراءة الحسن‏:‏ جاعل الملائكة بالرفع‏.‏ فهذا على قولك‏:‏ هو جاعل الملائكة‏.‏ ويشهد به أيضاً قراءة خليد بن نشيط‏:‏ جعل الملائكة‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ إذا طال الكلام خرجوا من الرفع إلى النصب ومن النصب إلى الرفع‏.‏ يريد ما نحن عليه، لتختلف ضروبه وتتباين تراكيبه‏.‏ هذا كلامه‏.‏

وقد أورده سيبويه في باب الصفة المشبهة أيضاً، على أن معاقد منصوب بقوله الطيبون على التشبيه بالمفعول به وليس مفعولاً به، لأن عامله غير متعدٍ، ولا تمييزاً كما زعم الكوفيون، لأنه معرفة‏.‏

فإن قيل‏:‏ يكون تمييزاً من باب حسن الوجه المنوي به الانفصال، فيكون نكرة‏.‏

أجيب بأنه ليس منه في شيء، إنما إضافته من باب إضافة المصادر والأمكنة إلى ما بعدها، كقيام زيد ومقام عمرو، فإن إضافتهما معنوية‏.‏

وقولها‏:‏ لا يبعدن معناه لا يهلكن، وهو دعاء جاء بلفظ النهي‏.‏ ويبعدن‏:‏ فعل مستقبل مبني مع نون التوكيد الخفيفة، وموضعه جزم بلا الدعائية وقومي فاعله، يقال‏:‏ بعد يبعد من باب فرح إذا هلك‏.‏ وإما الذي هو ضد القرب فهو بعد يبعد بضم العين فيهما ومصدره البعد، وقد يستعمل في الهلاك أيضاً لتداخل معنييهما، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا بُعداً لمدين كما بَعدتْ ثَمود‏}‏‏.‏

قال اللخمي في شرح أبيات الجمل‏:‏ واسم الفاعل منهما جميعاً بعيد، استويا فيه كما استويا في المصدر تقول بعد وبعد بعداً وبعداً‏.‏

وقال ابن السيد في شرح أبيات الجمل‏:‏ فإن قيل‏:‏ كيف دعت لقومها بأن لا يهلكوا، وهم قد هلكوا، فالجواب أن العرب قد جرت عادتهم باستعمال هذه اللفظة في الدعاء للميت، ولهم في ذلك غرضان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنهم يريدون به استعظام موت الرجل الجليل، وكأنهم لا يصدقون بموته‏.‏ وقد بين هذا المعنى النابغة الذبياني بقوله‏:‏ الطويل

يقولون حصنٌ ثمّ تأبى نفوسهم *** وكيف بحصنٍ والجبال جنوح

ولم تلفظ الموتى القبور ولم تزل *** نجوم السّماء والأديم صحيح

يريد أنهم يقولون‏:‏ مات حصن، ثم يستعظمون أن ينطقوا بذلك ويقولون‏:‏ كيف يجوز أن يموت، والجبال لم تنسف، والنجوم لم تنكدر، والقبور لم تخرج موتاها، وجرم العالم صحيح، لم يحدث فيه حادث‏.‏

والغرض الثاني أنهم يريدون الدعاء له بأن يبقى ذكره ولا يذهب، لأن بقاء ذكر الإنسان بعد موته بمنزلة حياته‏.‏ ألا ترى إلى قول الشاعر‏:‏ الطويل

فأثنوا علينا لا أبا لأبيكم *** بأفعالنا إنّ الثّناء هو الخلد

وقال آخر يرثي يزيد بن مزيد الشيباني‏:‏ الطويل

فإن تك أفنته اللّيالي فأوشكت *** فإنّ له ذكراً سيفني اللّياليا

وقال المتنبي وأحسن‏:‏ البسيط

ذكر الفتى عمره الثّاني وحاجته *** ما فاته وفضول العيش أشغال

وقد بين مالك بن الريب المزني ما في هذا من المحال من قصيدة تقدمت‏:‏ الطويل

يقولون لا تبعد وهم يدفنونني *** وأين مكان البعد إلاّ مكانيا

وقال الفرار السلمي‏:‏ الكامل

ما كان ينفعني مقال نسائهم *** وقتلت دون رجالهم لا تبعد

وقولها‏:‏ سم العداة الخ، السم معروف، وسينه مثلثة‏.‏ والعداة‏:‏ الأعداء جمع عاد، كقضاة جمع قاض، حكى أبو زيد‏:‏ أشمت الله عاديك أي‏:‏ عدوك‏.‏ ولا يكون العداة جمع عدو؛ لأن عدو فعول، وفعول لا يجمع على فعلة إنما يجمع عليه فاعل المعتل اللام‏.‏ والأعداء جمع عدو، أجروا فعولاً مجرى فعيل، كشريف وأشراف‏.‏ وقد جمعوا أعداءً على أعادي‏.‏ والآفة‏:‏ العلة‏.‏ والجزر بضم فسكون‏:‏ جمع جزور، والأصل بضمتين، كرسول ورسل، فسكن الثاني تخفيفاً‏.‏ والجزور هي الناقة التي تنحر‏.‏

فإن كانت من الغنم فهي جزرة بفتحتين‏.‏ وصفتهم أولاً بالشجاعة والنجدة، وأنهم يقتلون أعداءهم كما يقتلهم السم‏.‏

وثانياً بالكرم ونحر الإبل للأضياف، فكأنهم آفة للإبل تصيبها فتهلكها‏.‏

قال ابن السيد‏:‏ فإن قيل‏:‏ كيف قالت الذين هم، وإنما يليق هذا بمن هو موجود، وإنما كان ينبغي أن تقول كانوا، كما قال الآخر‏:‏ الكامل

كانوا على الأعداء نار محرّقٍ *** ولقومهم حرماً من الأحرام

فالجواب عنه من وجهين‏:‏ أحدهما أن العرب كانت تضمن كان، اتكالاً على فهم السامع، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتَّبعُوا ما تتلُوا الشّياطينُ على مُلْكِ سليمان‏}‏، قال الكسائي‏:‏ أراد ما كانت تتلو‏.‏

وثانيهما‏:‏ أنها إذا دعت ببقاء الذكر بعد موتهم صاروا كالموجودين، وكانوا موصوفين بما كانوا يفعلونه‏.‏

وقولها النازلين الخ، قال ابن خلف‏:‏ يجوز في النازلين والطيبين أربعة أوجه‏:‏ رفعهما، ونصبهما، ورفع أحدهما مع نصب الآخر مقدماً ومؤخراً، على القطع، غير أنك إن رفعتهما جاز أن يكونا نعتين لقومي، فيكون الرافع لهما رافع قومي بعينه، والكلام جملة واحدة، وجاز أن يكونا مقطوعين في التقدير بإضمار مبتدأ، فيكونا جملتين، والرافع والناصب المقدران لا يجوز أن يظهر واحد منهما لفظاً، إنما يكون مقدراً أبداً منوياً، وامتناع إظهاره إشعار باتصاله بما قبله وتشبيه به، فلو ظهر أمكن أن يكون جملةً قائمة بنفسها مستقلة، وليس الغرض ذلك‏.‏

ويجوز أن يكون الطيبون معطوفاً على سم العداة وآفة الجزر، وأن يكون على الضمير في النازلين‏.‏ ويجوز الرفع على إضمار مبتدأ كما ذكر في الكتاب‏.‏ ولا يجوز أن يكون النازلون رفعاً صفة لمجموع قومي وسم العداة، لاختلاف العاملين‏.‏

فإن قيل‏:‏ هل الأقيس أن يكون نعتاً لقومي ولسم العداة‏؟‏ فالجواب‏:‏ لقومي، لأنه محض الاسم، فهو أولى بالوصف من الصفة‏.‏ انتهى‏.‏

وإنما كان سم صفة لتأويله بالقاتل‏.‏

ثم قوله‏:‏ وفي نصب النازلين اختلاف، فالزجاجي يذهب إلى أنه نصب على إضمار أعني، وعلى قياس قول سيبويه نصب على المدح ساقط؛ إذ لا اختلاف معنى، فإن هذا ونحوه منصوب على المدح، سواء قدر أمدح وأعني ونحوهما‏.‏

والباء في بكل ظرفية متعلقة بالنازلين والمعترك، وكذلك المعرك كجعفر، والمعركة‏:‏ موضع القتال‏.‏ وهذا مشتق من عركت الرحا الحب، إذا طحنته‏.‏

أرادوا أن موضع القتال يطحن كما تطحن الرحا ما يحصل فيها، ولذلك سموه رحاً‏.‏

قال عنترة‏:‏

دارت على القوم رحاً طحون

وقد بين ذلك زهير بن أبي سلمى بقوله‏:‏ الطويل

فتعرككم عرك الرّحا بثفاله *** وتلقح كشافاً ثمّ تحمل فتفطم

وقولها‏:‏ النازلين بكل معترك يعني أنهم ينزلون عن الخيل عند ضيق المعترك فيقاتلون على أقدامهم، وفي ذلك الوقت يتداعون‏:‏ نزال‏!‏ كما قال ربيعة بن مقرومٍ الضبي‏:‏ الكامل

ولقد شهدت الخيل يوم طراده *** بسليم أوظفة القوائم هيكل

فدعوا نزال فكنت أوّل نازلٍ *** وعلام أركبه إذا لم أنزل

وقال ابن السيد‏:‏ النزول في الحرب على ضربين‏:‏ أحدهما ما ذكر، والثاني في أول الحرب، وهو أن ينزلوا عن إبلهم ويركبوا خيلهم‏.‏

قال اللخمي‏:‏ وإنما ينزلون عن الإبل إلى الخيل في الغارات، يقودون خيولهم ليريحوها، ويركبون إبلهم، فإذا قربوا من عدوهم وأغاروا نزلوا عن إبلهم إلى خيلهم، مخافة أن يتبعوا فيدركوا‏.‏

وزعم ابن سيده في نزولهم إنما هو من الإبل إلى الخيل‏.‏ وليس كذلك‏.‏

وفي قولها‏:‏ النازلين الخ، إشارة إلى أن حالهم في القتال على الخيل كحالهم في القتال على الأقدام، وأنهم لا يكعون عن النزول، إذ أحوال الناس في ذلك مختلفة، ولا ينزل في ذلك الموضع إلا أهل البأس والشدة ولذلك قال مهلهل‏:‏ الخفيف

لم يطيقوا أن ينزلوا فنزلن *** وأخو الحرب من أطاق النّزولا

وقولها‏:‏ والطيبون أرادت أنهم أعفاء في فروجهم؛ لأن العرب تكني بالشيء عما يحويه ويشتمل عليه، كقولهم‏:‏ ناصح الجيب، يريدون الفؤاد، فكنوا عنه بالجيب الذي يقع عليه وقريباً منه‏.‏

تقول‏:‏ لا يحلون أزرهم على ما ليس لهم‏.‏ قال اللخمي‏:‏ وقال ابن خلف‏:‏ إذا وصفوا الرجل بطهارة الإزار وطيبه، فهو إشارة وكناية عن عفة الفرج، يراد أنه لا يعقد إزاره على فرج زانية‏.‏ وكذلك طهارة الذيل‏.‏ وإذا وصف بطهارة الكم والردن وهم الكم بعينه، أرادوا أنه لا يسرق ولا يخون‏.‏

وإذا وصفوه بطهارة الجيب أرادوا أن قلبه لا ينطوي على غش ولا مكر‏.‏ وقد يكنون عن عفة الفرج بطيب الحجزة، كما قال النابغة‏:‏ الطويل

رقاق النّعال طيّبٌ حجزاتهم

والمعاقد إما جمع معقد بكسر القاف، وهو موضع العقد، وإما جمع معقد بفتحها وهو مصدر ميمي‏.‏

قال اللخمي‏:‏ المعاقد الحجز‏.‏ والحجزة بضم المهملة وسكون الجيم بعدها زاي معجمة، وهي حيث يثنى طرف الإزار في لوث الإزار، أي‏:‏ طيبه‏.‏

وحكى ابن الأعرابي حزة بضم المهملة وتشديد الزاء، كما ينطق بها العامة‏.‏ وقيل‏:‏ المعاقد للأزر، والحجز للسراويلات‏.‏ والحجز للعجم وملوك العرب كما قال النابغة، والمعاقد للعرب لأنها لا تكاد تلبس إلا الأزر؛ وهو جمع إزار، وسكن الزاء أيضاً تخفيفاً والأصل ضمها، والإزار عند العرب‏:‏ ما ستر النصف الأسفل من الإنسان، والرداء‏:‏ ما ستر النصف الأعلى منه‏.‏

ولبس السراويل عند العرب نادر‏.‏ يروى أن أعرابياً مر بسراويل ملقاةٍ فظنها قميصاً فأدخل يديه في ساقيها وأدخل رأسه فلم يجد منفذاً، فقال‏:‏ ما أظن هذا إلا من قمص الشياطين‏!‏ ثم رماها‏.‏

وهذان البيتان من قصيدة لخرنق بنت هفان، رثت بها زوجها بشر بن عمرو ابن مرثد الضبعي، وابنها علقمة بن بشر، وأخوه حسان وشرحبيل، ومن قتل معه من قومه، وكان بشر غزا بني أسد بن خزيمة هو وعمرو بن عبد الله بن الأشل، وكانا متساندين‏:‏ بشر على بني مالك وبني عتاب بن ضبيعة، وعمرو على بني مالك وبني رهم‏.‏

ومعنى التساند والمساندة أن يخرج كل رجل على حدته وانفراده، ليس لهم أمير يجمعهم‏.‏ فأغار على بني أسد فتقدمتهم بنو أسد إلى عقبة يقال لها‏:‏ قلاب، فقتل بشر بن عمرو وبنوه، وفر عمرو بن عبد الله بن الأشل فسمي ذلك اليوم يوم قلاب‏.‏ كذا قال ابن السيد واللخمي‏.‏

وبعد البيتين‏:‏

قومٌ إذا ركبوا سمعت لهم *** لغطاً من التّأييه والزّجر

في غير ما فحشٍ يجاء به *** بمنائح المهرات والمهر

إن يشربوا يهبوا وإن يذرو *** يتواعظوا عن منطق الهجر

والخالطين نحيتهم بنضارهم *** وذوي الغنى منهم بذي الفقر

هذا ثنائي ما بقيت عليهم *** فإذا هلكت أجنّني قبري

واستدل بعضهم بهذه الأبيات على أن ما تقدم دعاء لمن بقي من قومها، أي‏:‏ لا أبعد الله من قومي كبعد من مضى منهم‏.‏

ويرد عليه قولها في القصيدة‏:‏

لاقوا غداة قلاب حتفهم *** سوق العتير يساق للعتر

واللغط بفتح المعجمة وسكونها‏:‏ الأصوات المختلطة‏.‏ والتأييه‏:‏ الدعاء‏.‏ يقال‏:‏ أيهت بالرجل إذا دعوته، وأيهت بالفرس‏.‏ وفي الحديث‏:‏ أن ملك الموت سئل‏:‏ كيف تقبض الأرواح‏؟‏ فقال‏:‏ أؤيه بها كما يؤيه بالخيل فتجيء إلي‏.‏

وقولها‏:‏ في غير ما فحش الخ، ما زائدة‏.‏ قال ابن السكيت‏:‏ تقول‏:‏ يزجرونها بعفاف من ألسنتهم، لا يذكرون الفحش في الزجر‏.‏

وقولها‏:‏ إن يشربوا يهبوا، ليس بمدح تام، لأنها جعلت العلة في كرمهم شرب الخمر‏.‏

وقد عيب على طرفة قوله‏:‏ الرمل

فإذا ما شربوها وانتشو *** وهبوا كلّ أمونٍ وطمر

وعيب على حسان قوله‏:‏ الوافر

ونشربها فتتركنا ملوك *** وأسداً ما ينهنهنا اللّقاء

وقد قال البحتري في هذا فأحسن‏:‏ الطويل

تكرّمت من قبل الكؤوس عليهم *** فما اسطعن أن يحدثن فيك تكرّما

وأول من نطق بهذا امرؤ القيس في قوله‏:‏ الطويل

سماحة ذا وبرّ ذا ووفاء ذ *** ونائل ذا إذا صحا وإذا سكر

فأخبر أنه جواد في الحالين جميعاً‏:‏ في حال الصحو، وفي حال السكر‏.‏ وهذا هو المدح التام‏.‏ ثم اتبعه زهير فقال‏:‏ الطويل

أخو ثقةٍ لا تتلف الخمر ماله *** ولكنّه قد يهلك المال نائله

والهجر بالضم‏:‏ الكلام القبيح‏.‏

وقولها‏:‏ والخالطين نحيتهم الخ، النحيت بفتح النون وكسر المهملة‏:‏ الخامل الساقط الذكر‏.‏ والنضار بضم النون بعدها ضاد معجمة‏:‏ الخالص النسب العزيز الشهير‏.‏

يقول‏:‏ إنهم خلطوا خاملهم برفيعهم، وفقيرهم بغنيهم، فاكتسبوا منهم الغنى والخصال الحميدة؛ فليس فيهم خامل ولا فقير‏.‏

ومثله قول زهير‏:‏ الطويل

على مكثريهم حق من يعتريهم *** وعند المقلّين السّماحة والبذل

وهذا البيت وقع في شعر حاتم الطائي، قال أبو عبيدة‏:‏ والصواب أنه لخرنق‏.‏

والعروض في هذا البيت على متفاعلن تامة؛ وهي في جميع الأبيات على فعلن حذاء، ولا يجوز ذلك‏.‏ والشعر من الضرب الرابع من الكامل‏.‏

وقولها‏:‏ فإذا هلكت الخ‏:‏ أجنني‏:‏ سترني‏.‏ قال ابن السيد‏:‏ كلام لا فائدة فيه على ظاهره، والمعنى فإذا هلكت قام عذري في تركي الثناء عليهم لهلاكي، فهو مما وضع السبب فيه موضع المسبب‏.‏

وقولها‏:‏ لاقوا غداة الخ، الحتف‏:‏ الهلاك‏.‏ وسوق مفعول مطلق، أي‏:‏ سيقوا إلى الحتف سوقاً كسوق العتير، وهو بفتح العين المهملة وكسر المثناة الفوقية‏:‏ ما يذبح للأصنام في رجب في الجاهلية، تعظيماً لأصنامهم‏.‏ والعتر، بفتح العين المهملة‏:‏ ذبح العتيرة، فهو مصدر‏.‏

وقلاب بضم القاف وتخفيف اللام وآخره باء موحدة، قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم‏:‏ هو جبل من محلة بني أسد على ليلة‏.‏ وفي عقبة قلاب قتلت بنو أسد بشر بن عمرو زوج خرنق، وابنها منه علقمة بن بشر فقالت‏:‏ الوافر

منت لهم بوائلة المناي *** بحرف قلاب للحين المسوق

ثم إن بني ضبيعة أصابوا بني أسد بهرشى وأدركوا بثأرهم، فقال وائل بن شرحبيل بن عمرو بن مرثد‏:‏ الطويل

أبي يوم هرشى أدرك الوتر فاشتفى *** بيوم قلابٍ والصّروف تدور

انتهى‏.‏

ومنت أصله منيت، أي‏:‏ قدرت المنايا لهم، فحذفت الباء‏.‏

وهو آخر بيت من أبيات، وهي‏:‏

لا وأبيك آسى بعد بشرٍ *** على حيّ يموت ولا صديق

وبعد الخير علقمة بن بشرٍ *** إذا ما الموت كان لدى الحلوق

ومال بنو ضبيعة بعد بشرٍ *** كما مال الجذوع من الحريق

فكم بقلاب من أوصال خرقٍ *** أخي ثقةٍ وجمجمةٍ فليق

وآسى‏:‏ أحزن‏.‏ ولا محذوفة، أي‏:‏ وأبيك لا أحزن بعد بشر‏.‏ والحلوق جمع حلق، وهو مجرى الطعام‏.‏ ومال بنو ضبيعة أي‏:‏ تساقطوا بعد بشر‏.‏ والخرق بكسر المعجمة، من الفتيان‏:‏ الظريف في سماحة ونجدة‏.‏

وخرنق بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء المهملة وكسر النون بعدها قاف، هي امرأة شاعرة جاهلية‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ هي خرنق بنت بدر بن هفان، من بني سعد بن ضبيعة رهط الأعشى‏.‏ كذا في العباب للصاغاني‏.‏

وفي كتاب التصحيف للعسكري وشروح أبيات الكتاب والجمل‏:‏ خرنق بنت هفان القيسية، من بني قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، بحذف بدر‏.‏ وقالوا‏:‏ هي أخت طرفة بن العبد لأمه‏.‏

وقال يعقوب ابن السكيت في أبيات المعاني‏:‏ هي عمة طرفة بن العبد‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقيس هو رهط الأعشى أيضاً، وإليه ينسب فيقال أعشى قيس‏.‏

وخرنق من الأسماء المنقولة، لأن الخرنق في اللغة ولد الأرنب‏.‏ والخرنق أيضاً‏:‏ مصنعة الماء، وهو نحو الصهريج، والنون أصلية‏.‏

وأما هفان بفتح الهاء وكسرها وتشديد الفاء، فهو اسم مرتجل غير منقول مشتق من الهفيف، وهو سرعة السير‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الشاهد الثاني والأربعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد سيبويه‏:‏ الطويل

وما الدّهر إلاّ تارتان فمنهم *** أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

على أن الموصوف محذوف، أي‏:‏ منهما تارة أموت‏.‏ هكذا قدر سيبويه وأورده في باب حذف المستثنى، نحو قولك ليس غير وليس إلا أنه، كأنه قال‏:‏ ليس إلا ذاك، وليس غير ذاك‏.‏

قال‏:‏ وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول‏:‏ ما منهما مات حتى رأيته في حال كذا، وإنما يريد‏:‏ ما منهما واحد مات‏.‏ انتهى‏.‏

وأورده الفراء أيضاً في تفسيره عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن آياتهِ يُرِيكم‏}‏ قال‏:‏ من أظهر أن، فهي في موضع اسم مرفوع، كما قال‏:‏ ومن آياته منامكم بالليل، فإذا حذفت أن جعلت مؤدية عن اسم متروك يكون الفعل صلةً له، كقول الشاعر‏:‏

وما الدهر إلاّ تارتان‏.‏‏.‏‏.‏ ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

كأنه أراد‏:‏ فمنهما ساعة أموتها، وساعة أعيشها، وكذلك‏:‏ ومن آياته آية للبرق وآية لكذا‏.‏ وإن شئت يريكم من آياته البرق، فلا تضمر أن ولا غيره‏.‏ انتهى‏.‏

وكذلك أنشده الزجاج في تفسيره عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنَ الذين هَادُوا يُحرِّفونَ الكلم‏}‏ أي‏:‏ قوم يحرفون، كهذا البيت‏.‏

والمعنى منهما تارة أموت فيها، فحذف تارة وأقام الجملة التي هي صفتها نائبة عنها، فصار‏:‏ أموت فيها، فحذف حرف الجر فصار التقدير‏:‏ أموتها، ثم حذف الضمير فصار أموت‏.‏ ومثله في الحذف من هذا الضرب، بل هو أطول منه‏:‏ الرجز

تروّحي يا خيرة الفسيل *** تروّحي أجدر أن تقيلي

أصله‏:‏ ائتي مكاناً أجدر بأن تقيلي فيه، فحذف الفعل الذي هو ائتي لدلالة تروحي عليه، فصار مكاناً أجدر بأن تقيلي فيه، ثم حذف الموصوف الذي هو مكاناً، فصار تقديره أجدر بأن تقيلي فيه، ثم حذف الباء أيضاً تخفيفاً، فصار أجدر أن تقيلي فيه‏.‏

ففيه إذن خمسة أعمال، وهي حذف الفعل الناصب، ثم حذف الموصوف، ثم حذف الباء، ثم حذف في، ثم حذف الهاء‏.‏ وهنا عمد سادس وهو أن أصله ائتي مكاناً أجدر بأن تقيلي فيه من غيره، كما تقول‏:‏ مررت برجل أحسن من فلان، وأنت أكرم علي من غيرك‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا البيت من قصيدة لتميم بن أبي بن مقبل، وهو شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والثلاثين من أوائل الكتاب‏.‏

وقبله يصف القحط‏:‏

ألم تعلمي أن لا يذمّ فجاءتي *** دخيلي إذا اغبرّ العضاه المجلّح

وأن لا ألوم النّفس فيما أصابني *** وأن لا أكاد بالذي كنت أفرح

وما العيش إلاّ تارتان فمنهم *** أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

وكلتاهما قد خطّ لي في صحيفةٍ *** فلا العيش أهوى لي ولا الموت أروح

أن في المواضع الثلاثة مخففة من الثقيلة، والفعل بعدها مرفوع، وفجاءتي مفعول مقدم‏.‏

والفجاءة بضم الفاء والمد‏:‏ مصدر فجأه الأمر كضربه، وفجئه كعلمه، إذا أتاه بغتة‏.‏ ويقال أيضاً فاجأه المر مفاجأة وفجاءً‏.‏ ودخيلي، أي‏:‏ ضيفي، فاعل مؤخر، والدخيل‏:‏ الضيف إذا حل بالقوم فأدخلوه‏.‏

يقول‏:‏ إذا جاءني بغتةً ضيف في أيام القحط فلا بد من إطعامه وإكرامه ولا أدعه يذمني‏.‏ واغبر‏:‏ صار بلون الغبرة‏.‏ والعضاه بكسر العين المهملة بعدها ضاد معجمة وآخره هاء‏:‏ شجر عظيم شائك تأكل الماشية ورقه‏.‏ والمجلح بالجيم، قال صاحب الصحاح‏:‏ المأكول، ومنه قول ابن مقبل‏:‏

إذا اغبرّ العضاه المجلّح

وهو الذي قد أكل حتى لم يترك منه شيء‏.‏

والكدح‏:‏ الكسب والسعي، وجملة أكدح حال مؤكدة لعاملها، وهو أبتغي، وتارة المحذوفة مبتدأ وجملة أموت صفتها، والعائد إلى الموصوف محذوف، أي‏:‏ فيها‏.‏ ومنهما خبر مقدم، وأخرى صفة مبتدأ محذوف، أي‏:‏ تارة آخرى‏.‏ وليس في هذا شاهد‏.‏ وجملة أبتغي العيش خبر المبتدأ والعائد محذوف أيضاً، أي‏:‏ فيها‏.‏ يقول‏:‏ لا راحة في الدنيا لأن وقتها قسمان‏:‏ إما موت، وهو مكروه عند النفس، وإما حياة وكلها سعي في المعيشة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الشاهد الثالث والأربعون بعد الثلاثمائة الطويل

وكلّمتها ثنتين كالماء منهم *** وأخرى على لوح أحرّ من الجمر

لما تقدم قبله، أعني أن الموصوف محذوف، إذا كان بعضاً من مجرور بمن، سواء تقدم المجرور كما مضى، وتأخر كما هنا، ولهذا كرر الشاهد، فإن التقدير‏:‏ كلمتها كلمتين منهما كلمة كالماء، وكلمة أخرى أحر من الجمر‏.‏ وتقدم المجرور أكثري‏.‏

وهذا ثالث أبيات ثلاثة أوردها الجاحظ في كتاب البيان والتبيين وهي‏:‏

لقيت البنة السّهميّ زينب عن عفر *** ونحن حرامٌ مسي عاشرة العشر

وإنّي وإيّاها لحتمٌ مبيتن *** جميعاً وسيرانا مغذٌّ وذو فتر

فكلمتها ثنتين كالثّلج منهم *** على اللّوح والأخرى أحرّ من الجمر

السهمي‏:‏ نسبة إلى سهم، بفتح السن المهملة‏:‏ قبيلة من قريش، وقبيلة في باهلة أيضاً‏.‏ وزينب بدل من ابنة، وعفر بضم العين المهملة وسكون الفاء وبضم الفاء أيضاً‏.‏

قال الجاحظ‏:‏ يقال ما يلقانا إلا عن عفر، أي‏:‏ بعد مدة‏.‏ وكذلك قال القالي في أماليه‏:‏ قوله عن عفر‏:‏ عن بعد، أي‏:‏ بعد حين، يقال‏:‏ ما ألقاه إلا عن عفر أي‏:‏ بعد حين‏.‏

وقال الزمخشري في مستقصى الأمثال‏:‏ لقيته عن عفر، أي‏:‏ بعد شهر ونحوه، والأصل قلة الزيارة، من تعفير الظبية ولدها، وهو أن ترضعه ثم تدعه ثم ترضعه، ثم تدعه، وذلك إذا أرادت أن تفطمه‏.‏

وعكس المأخذ صاحب الصحاح فقال‏:‏ والتعفير في الفطام أن تمسح المرأة ثديها بشيء من التراب تنفيراً للصبي‏.‏

ويقال هو من قولهم‏:‏ لقيت فلاناً من عفر بالضم أي‏:‏ بعد شهر ونحوه، لأنها ترضعه بعد اليوم واليومين، تبلو بذلك صبره‏.‏

وقوله‏:‏ ونحن حرام قال القالي‏:‏ أي‏:‏ محرومون‏.‏ قال صاحب الصحاح‏:‏ ورجل حرام بالفتح أي‏:‏ محرم، والجمع حرم مثل قذال وقذل‏.‏ انتهى‏.‏

وإنما لم يجمعه هنا لأنه في الأصل مصدر يستوي فيه الجمع والتثنية والمفرد‏.‏ وجملة ونحن حرام حال من الفاعل والمفعول‏.‏ وقوله‏:‏ مسي عاشرة الخ مسي بضم الميم وسكون السين، وكسر الميم لغة‏:‏ اسم للمساء، كالصبح اسم للصباح، ولهذا قال الجاحظ أي‏:‏ وقت المساء‏.‏ وهو ظرف لقوله لقيت‏.‏ وعاشرة العشر هو اليوم العاشر من ذي الحجة، يريد أنه لقيها بعرفات عشية عرفة، وهي مسي عاشرة العشر‏.‏

وقوله‏:‏ لحتم مبيتنا الحتم، بفتح الحاء المهملة‏:‏ اللازم‏.‏ يريد إن مبيت الناس بالمدلفة حتم لا يتجاوزها أحد‏.‏ وجميعاً حال من المضاف إليه، وهو ضمير المتكلم مع الغير‏.‏

وقوله وسيرانا الخ، سيرا‏:‏ مثنى سير، حذفت نونه للإضافة، ونا ضمير المتكلم مع الغير‏.‏ وروي‏:‏ مسرانا بالإفراد‏.‏

قال صاحب الصحاح‏:‏ وسريت سرى ومسرى وأسريت بمعنى، إذا سرت ليلاً‏.‏ وأما السير فلا يختص بالليل‏.‏ قال صاحب الصحاح‏:‏ سار يسير سيراً ومسيراً، يكون بالليل وبالنهار، ويستعمل لازماً ومتعدياً‏.‏ ومغذ بالغين والذال المعجمتين اسم فاعل من أغذ في السير إغذاذاً‏.‏ أي‏:‏ أسرع فيه وجد‏.‏ والفتر، بفتح الفاء، بمعنى الفترة والفتور، أي‏:‏ الانكسار والضعف‏.‏

قال القالي‏:‏ أي سير أنا مسرع، وسيرها ذو فتور وسكون، لأنها يرفق بها‏.‏ ولم يرو القالي في أماليه إلا هذين البيتين عن أبي بكر بن دريد‏.‏

وقوله‏:‏ فكلمتها ثنتين الخ الصواب رواية الجاحظ، وهي كالثلج بدل كالماء‏.‏

والمصراع الثاني كذا‏:‏ على اللوح والأخرى أحرّ من الجمر وكذا رواه الزمخشري في المستقصى‏:‏ واللوح بفتح اللام وآخره حاء مهملة‏:‏ العطش‏.‏ قال الجاحظ‏:‏ لاح الرجل يلوح لوحاً‏.‏ والتاح يلتحا التياحاً، إذا عطش‏.‏ انتهى‏.‏

وعلى بمعنى مع‏.‏ يريد‏:‏ إني كلمتها كلمتين، كانت إحداهما كالثلج مع العطش زال بها ما أجد من الحرارة، وكانت الكلمة الأخرى أحر من الجمر، فالتهب قلبي من حرارتها‏.‏

قال الحريري في درة الغواص‏:‏ أراد بالكلمة الأولى تحية القدوم، وبالأخرى سلام الوداع‏.‏

وجعل الزمخشري‏:‏ أحر من الجمر من الأمثال، وأنشد له هذا البيت مع البيت الأول عن الجاحظ، لكن روى المصراع الأول هكذا‏:‏

فقالت لنا ثنتين كالثلج منهما

وهذا أنسب بما قاله الحريري‏.‏

وقوله‏:‏ ثنتين منصوب على المفعول المطلق، أي‏:‏ تكليمتين، والأخرى مبتدأ بتقدير موصوف أي‏:‏ والكلمة الأخرى؛ وأحر من الجمر خبر المبتدأ‏.‏

وهذه الأبيات نسبها الجاحظ والقالي والحريري إلى أبي العميثل عبد الله بن خالد‏.‏ والعميثل، بفتح العين المهملة والميم وسكون المثناة التحتية وفتح الثاء المثلثة‏.‏ والعميثل في اللغة يأتي لمعان منها الأسد الضخم، والسيد الكريم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الشاهد الرابع والأربعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س‏:‏ الرجز

لو قلت ما في قومها لم تيثم *** يفضلها في حسب وميسم

على أن جملة يفضلها صفة لموصوف محذوف هو بعض المجرور بفي‏.‏ قال سيبويه‏:‏ يريد ما في قومها أحد يفضلها، كما قالوا لو أن زيداً ها هنا، وإنما يريدون لكان كذا‏.‏ انتهى‏.‏

وأنشده الفراء في تفسيره عند قوله تعالى‏:‏ من الذين هادوا يحرفون الكلم على أحد وجهين، وذلك من كلام العرب، أن يضمروا من في مبتدأ الكلام بمن، فيقولون منا يقول ذاك ومنا لا يقوله وذلك أن من بعض لما هي منه، فلذلك أدت عن المعنى المتروك‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما مِنَّا إلاَّ له مَقَامٌ مَعْلوم‏}‏، وقال‏:‏ وإنْ مِنْكُم إلاَّ وَارِدُها ‏.‏ ولا يجوز إضمار من في شيء من الصفات إلا على هذا الذي نبأنك به‏.‏

وقد قالها الشاعر في فِي، ولست أشتهيها، قال‏:‏

لو قلت ما في قومها لم تأثم *** يفضلها في حسبٍ وميسم

ويروى أيضاً‏:‏ تيثم لغة‏.‏ وإنما جاز ذلك في فِي لأنك تجد معنى من أنه بعض ما أضيفت إليه‏.‏

ألا ترى أنك تقول فينا الصالحون وفينا دون ذلك، فكأنك‏:‏ قلت منا‏.‏ ولا يجوز أن تقول في الدار يقول ذاك، وأنت تريد في الدار من يقول، إنما يجوز إذا أضيفت في إلى جنس المتروك‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وأراد بمن المضمرة النكرة الموصوفة لا الموصولة، فإنها لا تحذف وتبقى صلتها، وأنها هي المرادة عنده فإنه كوفي، والكوفيون يجوزون حذف الموصول‏.‏

وقد بين الضابط في حذف الموصوف مع المجرور بمن وفي، إلا أنه جعل الثاني دون الأول، ووافقه السيرافي فقال‏:‏ أكثر ما يأتي الحذف مع من، لأن من تدل على التبعيض‏.‏ وقد جاء مثله مع في، وليس مثل من الكثرة‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ لم تيثم جواب لو الشرطية، أي‏:‏ لم تكذب فتأثم، وأصله تأثم فكسر التاء على لغة من يكسر حروف المضارعة إلا الياء للكراهة، وهم بنو أسد‏.‏

قال ابن يعيش‏:‏ وذلك إذا كان الفعل على فعل نحو يعلم ويسلم‏.‏ انتهى‏.‏

وقبل كسر التاء قلبت الهمزة ألفاً، وبعد كسر التاء قلبت الألف ياء لانكسار ما قبلها‏.‏

وقوله‏:‏ ما في قولها خبر لمبتدأ محذوف، وهو الموصوف بقوله يفضلها‏.‏ وقدره ابن يعيش بإنسان يفضلها، والجملة المنفية مقول القول‏.‏

وقوله‏:‏ في حسب متعلق بيفضلها‏.‏ والحسب‏:‏ ما يعده الإنسان من مفاخره، وأراد به الشرف النسبي وهو شرف الآباء، وأراد بالميسم الشرف الذاتي، فإن الميسم الحسن والجمال، من الوسم، وهو الحسن‏.‏

وهذا البيت من رجز لحكيم بن معية الربعي‏.‏ من بني ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم‏.‏ وهو راجز إسلامي كان في زمن العجاج وحميد الأرقط‏.‏ نسبه إليه سيبويه في موضع آخر من كتابه‏.‏

وبعده‏:‏

عفيفة الجيب حرام المحرم *** من آل قيس في النّصاب الأكرم

والنصاب وكذا المنصب‏:‏ الأصل‏.‏ وكان يفضل الفرزدق على جرير، فهجاه جرير لذلك‏.‏

ونسب ابن يعيش البيت الشاهد للأسود الحماني‏.‏ والله أعلم‏.‏

ومعية بضم الميم وفتح العين وتشديد التحتية‏:‏ مصغر معاوية‏.‏ والحماني بكسر الحاء المهملة وتشديد الميم‏:‏ نسبة إلى حمان‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الوافر

أنا ابن جلا وطلاّع الثّناي *** متى أضع العمامة تعرفوني

على أن الاسم الموصوف بالجملة لا يحذف بدون من، وفي، إلا في الشعر كما هنا، فإن أصله أنا ابن رجل جلا‏.‏ فجلا فعل ماض بمعنى كشف الأمور، وبمعنى انكشف أمره‏.‏ وفيه ضمير يعود على الموصوف المحذوف لضرورة الشعر‏.‏

وهذا على أحد التخريجين المشهورين في هذا البيت‏.‏ والتخريج الثاني لسيبويه، وهو أن جلا مع ضميره المستتر جملة محكية جعلت علماً، ولا شاهد فيه على هذا‏.‏ ولنا عليه كلام أسلفناه في الشاهد الثامن والثلاثين من أوائل الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الشاهد الخامس والأربعون بعد الثلاثمائة الرجز

مالك عندي غير سهم وحجر *** وغير كبداء شديدة الوتر

جادت بكفي كان من أرمى البشر

على أن جملة كان مع ضميره المستتر صفة لموصوف محذوف ضرورة، أي‏:‏ بكفي رجل وإنسان كان‏.‏ والأولى بكفي رام، للقرينة‏.‏

قال ثعلب في أماليه‏:‏ لم أسمع من في موضع الاسم إلا في ثلاثة مواضع، قوله‏:‏ جادت بكفي كان من أرمى البشر وقوله‏:‏ ألا ربّ منهم من يقوم بمالكا وقوله‏:‏ ألا ربّ منهم دارعٌ وهو أشوس انتهى‏.‏

وإنما قال لم أسمع لأن كان فعل، ورب حرف، ولا يليهما إلا الأسماء‏.‏ وبهذا يستدل على حرفية من التبعيضية، لأن رب لا تجر إلا النكرة‏.‏

وأقول‏:‏ لولا وقوع هذا الموصوف مضافاً إليه هنا لجاز أن يكون من قبيل‏:‏ وكلمتها ثنتين كالماء منهما وقال ابن جني في الخصائص‏:‏ روي أيضاً بفتح ميم من أي‏:‏ بكفي من هو أرمى البشر، وكان على هذا زائدة‏.‏ انتهى‏.‏

أقول‏:‏ جعل من على هذه الرواية نكرة موصوفة أولى من جعلها موصولة‏.‏

وقوله‏:‏ مالك عندي الخ، لك‏:‏ ظرف مستقر، وغير‏:‏ فاعله، وعندي‏:‏ متعلق بلك‏.‏ وكبداء أي‏:‏ قوس كبداء، وهي التي يملأ الكف مقبضها‏.‏ وجادت أي‏:‏ أحسنت‏.‏

وهذه رواية ثعلب وابن جني وغيرهما، ووقع في رواية ابن هشام في المغني‏:‏ ترمي بدل جدل جادت، ويروى في بعض نسخ هذا الشرح كانت، وهذا لا يناسب المعنى‏.‏

وقوله‏:‏ بكفي متعلق بمحذوف على أنه حال، وهو مثنى كف، وحذفت النون للإضافة‏.‏

وهذا الشاهد قلما خلا منه كتاب نحوي؛ ولكنه لم يعرف له قائل‏.‏ والله أعلم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الشاهد السادس والأربعون بعد الثلاثمائة من شواهد سيبويه‏:‏ الوافر

كأنّك من جمال بني أقيش *** يقعقع خلف رجليه بشنّ

على أن حذف الموصوف هنا بدون أن يكون بعضاً من مجرور بمن وفي لضروة الشعر، والتقدير‏:‏ كأنك جمل بني أقيش‏.‏ وهذا مثال لقيام الظروف مقام الموصوف لضرورة الشعر، والبيتان قبله لقيام الجملة مقامه كذلك‏.‏

وقد أورده ابن الناظم والمرادي في شرح الألفية كما أورده الشارح المحقق‏.‏ وفيه أن البيت من القسم الأول، وهو أن الموصوف بالجملة والظرف إذا كان بعضاً من مجرور بمن وفي يجوز حذفه كثيراً‏.‏

وبيانه أن الموصوف يقدر هنا قبل يقعقع، والجملة صفة له، أي‏:‏ كأنك جمل يقعقع، وهو بعض من المجرور بمن، ويكون قوله من جمال بني أقيش حالاً من ضمير يقعقع الراجع إلى جمل المحذوف‏.‏

وقد أورده الزمخشري في المفصل وصاحب اللباب فيما يجوز حذف الموصوف منه، إلا أنهما جعلاه خبراً لكان كالشارح المحقق‏.‏ وهما في ذلك تابعان لسيبويه، فإنه قال في باب حذف المستثنى استخفافاً، قال‏:‏ وذلك قولك ليس غير، وليس إلا، كأنه قال‏:‏ ليس إلا ذاك وليس غير ذاك، ولكنه حذفوا ذلك تخفيفاً واكتفاءً بعلم المخاطب ما يعنى‏.‏

وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول‏:‏ ما منهما مات حتى رأيته فيي حال كذا، وإنما يريد ما منهما واحد مات‏.‏

ومثل ذلك قوله تعالى جده‏:‏ وإنْ من أهلِ الكِتاب إلاَّ لِيُؤْمِنَنَّ بهِ قَبْلَ موته ، ومثل ذلك من الشعر‏:‏

كأنّك من جمال بني أقيش

أي‏:‏ كأنك جمل من جمال بني أقيش‏.‏

ومثل ذلك قوله أيضاً‏:‏

لو قلت ما في قومها لم تيثم

البيت‏.‏ انتهى‏.‏

وليس في كلامهم ما يشعر كونه من قبل الضرورة، بل جعله الزمخشري وصاحب اللباب من قبل ما إذا ظهر أمر الموصوف ظهوراً يستغنى معه عن ذكره، فحينئذ يجوز تركه، وإقامة الصفة مقامه‏.‏ ولم يذكر ما ذكره الشارح المحقق من جواز حذفه كثيراً، إذا كان بعضاً من مجرور بمن وفي‏.‏

وقوله‏:‏ بني أقيش بضم الهمزة وفتح القاف وآخره شين معجمة‏.‏ قال أبو عمرو‏:‏ هو حي من عكل، وجمالهم ضعاف تنفر من كل شيء تراه‏.‏

وقال ابن الكلبي‏:‏ بنو أقيش‏:‏ حي من الجن، وإنما أراد إنك نفور وليس لك معقود رأي‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ جمال بني أقيش حوشية ليست ينتفع بها، فيضرب بنفارها المثل‏.‏

ورأيت في جمهرة الأنساب‏:‏ أقيش بن منقر بن عبيد بن مقاعس بن عمرو ابن كعب‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏ وقيل‏:‏ بنو أقيش فخذ من أشجع، وقيل‏:‏ حي من اليمن‏.‏

ويقعقع بالبناء للمفعول‏.‏ والقعقعة‏:‏ تحريك الشيء اليابس الصلب‏.‏ والشن بالفتح‏:‏ القربة البالية، وجمعها شنان، وتقعقعها يكون بوضع الحصا فيها، وتحريكها، فيسمع منها صوت، وهذا مما يزيدها نفوراً‏.‏ وقع مثله في شعر صخر بن حبناء، يخاطب أخاه المغيرة‏:‏ الوافر

تجنّيت الذّنوب عليّ جهل *** لقد أولعت ويحك بالتّجنّي

كأنّك إذ جمعت المال عيرٌ *** يقعقع خلف رجليه بشنّ

ومنه المثل‏:‏ فلان ما يقعقع له بالشنان يضرب لمن لا يتضع لما ينزل به من حوادث الدهر، ولا يروعه ما لا حقيقة له‏.‏

وقال الزمخشري في المستقصى‏:‏ يضرب للرجل الشرس الصعب، أي‏:‏ لا يهدد ولا ينزع‏.‏

وقال الحجاج على منبر الكوفة‏:‏ إني والله يا أهل العراق ما يقعقع لي بالشنان‏.‏

وهذا البيت من قصيدة للنابغة الذبياني‏.‏ قال ابن السيرافي في شرح أبيات سيبويه‏:‏ سبب هذا الشعر أن بني عبس قتلوا رجلاً من بني أسد، فقتلت بنو أسد رجلين من بني عبس، فأراد عيينة بن حصن الفرزاري أن يعين بني عبس عليهم، وينقض الحلف الذي بين بني ذبيان، وبين بني أسد، فقال له النابغة‏:‏ أتخذل بني أسد وهم حلفاؤنا وناصرونا، وتعين بني عبس عليهم‏.‏ انتهى‏.‏

وهذه أبيات من القصيدة بعد ثمانية أبيات من أولها‏:‏ الوافر

أتخذل ناصري وتعزّعبس *** أيربوع بن غيظِ للمعنّ

كأنّك من جمال بني أقيش *** يقعقع خلف رجليه بشنّ

تكون نعامةً طوراً وطور *** هويّ الرّيح تنسج كلّ فنّ

إذا حاولت في أسد فجور *** فإنّي لست منك ولست منّي

هم درعي التي استلأمت فيه *** إلى يوم النّسار وهم مجنّي

وهم وردوا الجفار على تميمٍ *** وهم أصحاب يوم عكاظ إنّي

شهدت لهم مواطن صادقتٍ *** أتيتهم بنصح الصّدر منّي

بكلّ مجرّبٍ كاللّيث يسمو *** على أوصال ذيّال رفنّ

ولو أنّي أطعتك في أمور *** قرعت ندامةً من ذاك سنّي

وهذا آخر القصيدة‏.‏

وقوله‏:‏

أتخذل ناصري وتعزّ عبساً

هذا خطاب لعيينة بن حصن، وأراد بناصره بني أسد‏.‏

وقوله‏:‏

أيربوع بن غيظ للمعنّ

هذا خطاب آخر ليربوع بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان، وهو من قوم النابغة، والمعن بكسر الميم وفتح العين المهملة‏:‏ المعترض في الأمور، وعنى به عيينة بن حصن، يقال‏:‏ عن يعن، وإنك لتعن في هذا الأمر، أي‏:‏ تعرض فيه‏.‏ واللام في المعن متعلقة بمحذوف، أي‏:‏ تعجب يا يربوع من هذا المتعرض‏.‏

وقوله‏:‏ كأنك من جمال الخ هذا خطاب لعيينة أيضاً‏.‏ يقول‏:‏ أنت سريع الغضب والنفور، تنفر مما لا ينبغي لعاقل أن ينفر منه‏.‏ وقيل معناه إنك جبان في الحرب لا تقدر على الطعان والضراب، بل تنفر عنها، كما ينفر الجمل عن صوت الشن وقعقعته‏.‏

وقوله‏:‏ تكون نعامة، قال أبو عمرو‏:‏ يقول‏:‏ تتخيل مرة كذا ومرة كذا‏.‏

وقوله‏:‏ هوي الريح يريد طوراً تهوي هوي الريح‏.‏ والفن‏:‏ اللون، والجمع الفنون‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ كأنه يهوي هوي كل فن، أي‏:‏ كل ضرب من الجري‏.‏

وقوله‏:‏ إذا حاولت في أسد فجوراً، استشهد به الزمخشري عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وربائبك اللاَّتي في جُحورِكُمْ مِنْ نِسَائكم‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ درعي التي الخ اللأمة بالهمزة‏:‏ الدرع، واستلأمتها‏:‏ تحصنت فيها‏.‏ والمجن‏:‏ الترس‏.‏ والنسار، بكسر النون‏:‏ اسم مء لبني عامر من بني تميم، وفهي وقعة كانت لأسد وغطفان على تميم‏.‏

وقوله‏:‏ وردوا الجفار البيتين، في البيت التضمين، وهو عيب، وهو أن يتوقف على البيت الثاني، فأن خبر إن هو أول البيت الثاني، الجفار بكسر الجيم‏:‏ اسم ماء لبني تميم بنجد‏.‏

وقوله‏:‏ بكل مجرب كالليث الخ، أي‏:‏ بكل بشجاع مجرب في الحروب‏.‏ ورفن بكسر الراء المهملة بعدها فاء، قال أبو عمرو‏:‏ هو السريع‏.‏ والذيال‏:‏ الطويل الذنب‏.‏ والأوصال‏:‏ المفاصل، أي‏:‏ على أوصال فرس يذيل في مشيته سابغ الذنب‏.‏

والنابغة الذبياني شاعر جاهلي قد تقدمت ترجمته في الشاهد الرابع بعد المائة‏.‏

والمؤمن العائذات الطّير يمسحه *** ركبان مكّة بين الغيل والسّند

على أن العائذات كان في الأصل نعتاً لطير، فلما تقدم وكان صالحاً لمباشرة العامل أعرب بمقتضى العامل، وصار المنعوت بدلاً منه، فالطير بدل من العائذات، وهو منصوب إن كان العائذات منصوباً بالكسرة على أنه مفعول به للمؤمن، ومجرور إن كان العائذات مجروراً بإضافة المؤمن إليه‏.‏

والأصل على الأول‏:‏ والمؤمن الطير العائذات بنصب الأول بالفتحة والثاني بالكسرة‏.‏

وعلى الثاني‏:‏ والمؤمن الطير العائذات، بجرهما بالكسر، فلما قدم النعت أعرب بحسب العامل وصر المنعوت بدلاً منه‏.‏

هذا محصل كلام الشارح المحقق، وهو في هذا تابع لأبي علي في الإيضاح الشعري، وهذه عبارته‏:‏ من كانت الكسرة عنده جرة، على هذا الحسن الوجه جر الطير، لأن العائذات مجرورة‏.‏

ومن كانت الكسرة عنده في موضع نصب على قولك‏:‏ الضارب الرجل، نصب الطير والطير في هذا الموضع بدل وعطف، وإنما كان حده‏.‏

والمؤمن الطير العائذات، والطير العائذات، فقدم العائذات وأخر الطير‏.‏ والمؤمن هو الله سبحانه، وهو اسم فاعل من آمن كما قال‏:‏ الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف أي‏:‏ آمنهم من الخوف لكونهم في الحرم وحلولهم فيه‏.‏ انتهى‏.‏

ولم يرض الزمخشري هذا في المفصل في باب الإضافة أن العائذات كان في الأصل الطير العائذات، فحذف الموصوف، وجعل العائذات اسماً لا صفة، فلما جعلت اسماً احتاجت إلى تبيين، فأجري عليها بالتبيين‏.‏ قال‏:‏ وليس هذا من تقديم الصفة على الموصوف‏.‏

ولا يخفى أن هذا تكلف، ولهذا أعرض عنه الشارح‏.‏

وزعم بعضهم أن الطير بدل بعض من العائذات، لأن العائذات عام يقع على الطير والوحش وغيرهما‏.‏

وهذا البيت من قصيدة للنابغة الذبياني، وهو أحسن شعره، ولهذا ألحقوها بالقصائد المعلقات، مدح بها النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وتبرأ فيها مما اتهم به عند النعمان‏.‏

وتقدم أبيات منها في باب الاستثناء، وفي خبر كان وفي غيرهما‏.‏

وهذه أبيات منها‏:‏

فلا لعمر الذي قد زرته حجج *** وما هريق على الأنصاب من جسد

والمؤمن العائذات الطّير‏.‏‏.‏ ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

ما إن أتيت بشيءٍ أنت تكرهه *** إذن فلا رفعت سوطي إليّ يدي

إذن فعاقبني ربّي معاقبةً *** قرّت بها عين من يأتيك بالحسد

هذا لأبرأ من قولٍ قذفت به *** طارت نوافذه حرّى على كبدي

قوله‏:‏ فلا لعمر الذي الخ لا الداخلة على القسم قيل نافية منفيّها محذوف، أي‏:‏ ليس الأمر كما زعموا، وقيل‏:‏ زائدة توطئة لنفي جواب القسم، وعمر مبتدأ محذوف الخبر وجوباً أي‏:‏ قسمي‏.‏

وحججاً‏:‏ جمع حجة بكسر المهملة فيهما، وبعدها جيم، وهي السنة‏.‏ أقسم بالبيت الذي زاره في سنين متعددة، وهو البيت الحرام‏.‏

وقوله‏:‏ وما هريق على الأنصاب هريق بمعنى أريق، والهاء بدل من الهمزة‏.‏ والأنصاب‏:‏ حجارة كانت العرب في الجاهلية تنصبها وتذبح عندها‏.‏ والجسد بفتح الجيم، هو الدم‏.‏ وما معطوف على الذي، وكذا قوله والمؤمن‏.‏

وزعم من لم يطلع على البيت الأول أن الواو واو القسم‏.‏ والعائذات‏:‏ ما عاذ بالبيت من الطير، قال ثعلب‏:‏ أراد بالعائذات الحمام، لما عاذت بمكة والتجأت إليها حرم قتلها وآمنها من أن تضام‏.‏

وقد أغرب بعضهم بقوله العائذات جمع عائذ، وهي الحديثة النتاج من الطيور والبهائم، وهو من عذت بالشيء التجأت إليه، لأن الحامل إذا ضربها المخاض، عاذت‏.‏ وهو في الأصل من باب الكناية‏.‏ انتهى‏.‏

وفيه أن العائذ المعنى المذكور خاص بالناقة‏.‏

والطير‏:‏ جمع طائر مثل صحب وصاحب، وقد يقع على الطير الواحد، وجمعه طيور وأطيار‏.‏ وركبان‏:‏ جمع ركب، وجملة‏:‏ يمسحها ركبان مكة حال من الطير‏.‏ والسند بفتحتين‏:‏ ما قابلك من الجبل وعلا عن السفح‏.‏

ورى أبو عبيدة الغيل بكسر الغين المعجمة، وقال‏:‏ هي والسند أجمتان كانتا بين مكة ومنى‏.‏

وأنكرها الأصمعي وقال‏:‏ إنما الغيل بالفتح، وهو ماء، وإنما يعني النابغة ماء كان يخرج من أبي قبيس‏.‏

كذا في شرح ديوان النابغة‏.‏ ولم يذكر أبو عبيد هذا في معجم ما استعجم‏.‏

وقوله‏:‏ ما إن أتيت بشيء الخ هذا هو جواب القسم‏.‏ واستشهد به ابن هشام في المغني على أن إن تزاد بعد ما النافية‏.‏ يقول‏:‏ ما فعلت شيئاً تكرهه أنت، وإلا فلا رفعت يدي إلي سوطي، اي‏:‏ شلت يدي ولم تقدر على رفع السوط‏.‏

وقوله‏:‏ إذن فعاقبني ربي الخ هذا دعاء آخر على نفسه‏.‏

وقوله‏:‏ هذا لأبرأ الخ أي‏:‏ هذا القسم لأجل أن أتبرأ مما اتهمت به‏.‏ والنوافذ تمثيل، من قولهم‏:‏ جرح نافذ‏.‏ أي‏:‏ قالوا قولاً صار حره على كبدي وشقيت به‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

وليلٍ أقاسه بطيء الكواكب

على أنه يجوز أن توصف النكرة بالجملة قبل وصفها بالمفرد إذا اجتمعا، كما هنا، فإن ليلاً قد وصف بجملة أقاسيه قبل وصفه بقوله بطيء، وليس مجروراً بالعطف على هم في صدر البيت، وهو‏:‏

كليني لهم يا أميمة ناصب

يقول‏:‏ دعيني واتركيني لهذا الهم المتعب، ومقاساة الليل البطيء الكواكب‏.‏

وهذا البيت مطلع قصيدة للنابغة الذبياني أيضاً تقدم الكلام عليه مفصلاً في الشاهد السابع والثلاثين بعد المائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الشاهد الثامن والأربعون بعد الثلاثمائة‏:‏ الطويل

ألا أيّها الطّير المربّة بالضّحى *** على خالد لقد وقعت على لحم

على أن الصفة ربما تنوى ولم تذكر، للعلم بها كما هنا‏.‏ فإن التقدير على لحم، أي‏:‏ لحم‏.‏

وأورده في باب اسم الفعل أيضاً على أن التنكير في لحم للابهام أن التفخيم‏.‏

وكذا أورده في التفسيرين عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهم‏}‏ على تنكير هدى للتعظيم، أي‏:‏ هدى عظيم، كتنكير لحم في هذا البيت، أي‏:‏ لحم عظيم‏.‏

والفرق بينهما أن الأول مفهوم من اللفظ المحذوف، والثاني من الفحوى، والمحوج إلى هذا استقامة المعنى، ولولاه لكان لغواً لا يفيد شيئاً، ولهذا اعتبر، سواء كان بالطريق الأولى أم الثانية‏.‏

ولجوازهما قدر الشارح المحقق هنا الوصف، واعتبره هناك من التنكير، لما فيه من الإبهام المقتضى للتفخيم والتعظيم‏.‏

ونقل عن الزمخشري أنه كان إذا أنشد هذا البيت يقول‏:‏ ما أفصحك من بيت‏!‏

وصدر البيت لم أره كذا إلا في رواية الشارح المحقق‏.‏ والبيت من شعر مذكور في أشعار هذيل ذكر في موضعين منها، ذكر في الموضع الأول ستة أبيات، وفي الموضع الثاني اثنين وثلاثين بيتاً‏.‏ أما الرواية الأولى والشعر منسوب لأبي خراش فهي هذه‏:‏

إنّك لو أبصرت مصبر خالدٍ *** بجنب السّتار بين أظلم فالحزم

لأيقنت أنّ البكر ليس رزيّةً *** والنّاب لااضطمّت يداك على غنم

تذكّرت شجواً ضافني بعد هجعةٍ *** على خالدٍ فالعين دائمة السّجم

لعمر أبي الطّير المربّة بالضّحى *** على خالد لقد وقعت على لحم

كليه وربّي لا تجيئين مثله *** غداة أصابته المنيّة بالرّدم

ولا وأبي لا تأكل الطير مثله *** طويل النّجاد غير هار ولا هشم

قوله‏:‏ إنك لو أبصرت، هذا خطاب لعشيقة خالد بن زهير الهذلي، قتل بسببها كما يأتي بيان قتله‏.‏ وخالد هو ابن أخت أبي ذؤيب الهذلي‏.‏ والستار، بكسر السين المهملة بعدها مثناة فوقية وآخره راء مهملة، قال البكري في معجم ما استعجم‏:‏ هو جبل معروف بالحجاز‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏

وأظلم على وزن أفعل التفضيل من الظلم، قال البكري‏:‏ هو موضع قريب من الستار‏.‏ والحزم، بفتح المهملة وسكون الزاي المعجمة، هو موضع يقال له‏:‏ حزم بني عوال‏.‏ ووقوع هذه الفاء بعد بين قد شرحه الشارح المحقق في الفاء العاطفة‏.‏

وقوله‏:‏ لأيقنت أن البكر هو بالفتح الجمل الشاب‏.‏ والناب‏:‏ الناقة المسنة‏.‏ يقول‏:‏ لو رأيت هلاك خالد، لعلمت أن ذهاب البكر والناب ليسا بمصيبة، واستخففت مصابهما‏.‏

وقوله‏:‏ لا اضطمت الخ، هو دعاء عليها، وهو افتعلت من الضم، أي‏:‏ لا غنمت يداك، بل خيبك الله، إذ صرت تحزنين على هذا البكر‏.‏

وقوله‏:‏ تذكرت شجواً هو بضم التاء‏.‏ والشجو‏:‏ الحزن‏.‏ وضافني‏:‏ نزل بي كالضيف‏.‏ والهجعة‏:‏ النومة‏.‏ والسجم‏:‏ السكب‏.‏

وقوله‏:‏ لعمر أبي الطير قال السكري في شرح أشعار هذيل‏:‏ قوله لقد وقعت على لحم‏:‏ كان ممنوعاً‏.‏ والطير مضبوط بالكسرة في نسختي، وهذه نسخة قديمة صحيحة، تاريخ كتابتها في سنة مائتين بعد الهجرة، وعليها خطوط العلماء منهم ابن فارس صاحب المجمل في اللغة، كتب على ظهرها سند روايته‏.‏

لعمر مبتدأ محذوف الخبر، أي‏:‏ قسمي، وقوله‏:‏ لقد وقعت جواب القسم، وهو خطاب للطير على الالتفات‏.‏

وروى لقد عكفن بدله من العكوف بالغيبة، والنون ضمير الطير، وعليه لا التفات‏.‏

وأراد بأبي الطير الواقعة على لحمه، واستعظمها بالقسم بها لاستعظام لحم خالد العظيم، ففيه تعظيم للإقسام عليه بنفسه، كما قال أبو تمام‏:‏

وثناياك إنّها إغريض

والمربة‏:‏ اسم فاعل، صفة للطير، من أرب بالمكان، إذا أقام به‏.‏ وروي في التفسيرين‏:‏

فلا وأبي الطير المربة بالضحى

فلا رد لما يتوهم من تحقيره بأكل الطير له، وقيل زائدة‏.‏ وزعم بعضهم أن أبي بياء المتكلم، والطير بالرفع‏.‏ وبعض آخر لأن أبي أصله أبين بالجمع حذفت نونه للإضافة‏.‏ ولا يخفى ركاكته‏.‏

وقال السعد في حاشية الكشاف‏:‏ وروي برفع الطير، على أنه فاعل فعل يفسره لقد عكفن‏.‏

وقوله‏:‏ كليه وربي أمر للطير بالأكل، يرغبها في أكلها إياه، فإنها لا تجيء إلى مثله ولا تظفر به‏.‏

وقوله‏:‏ ولا وأبي لا تأكل الطير الخ، هار أصله هائر، أي‏:‏ ضعيف ساقط، فقلب وحذف بالإعلال، مثل شاكي السلاح أصله شائك‏.‏ والهشم‏:‏ الرخو الضعيف‏.‏

وأبو خراش‏:‏ شاعر إسلامي صحابي، تقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والسبعين‏.‏

وأما الرواية الثانية بعد ثماني أوراق بعد هذا، ونسبها الأخفش لخراش بن المذكور‏.‏

والقصيدة هذه‏:‏

أرقت لهمّ ضافني بعد هجعةٍ *** على خالدٍ فالعين دائمة السّجم

إذا ذكرته العين أغرفها البك *** وتشرق من تهمالها العين بالدمّ

فباتت تراعي النّجم عين مريضةٌ *** لما عالها واعتادها الحزن بالسّقم

عالها‏:‏ أثقلها وشق عليها‏.‏

وما بعد أن قد هدّني الحزن هدّةً *** تضال لها جسم ورقّ لها عظمي

وأن قد أصاب العظم منّي مخامرٌ *** من الدّاء داءٌ مستكنٌّ على كلم

تضال بمعنى صغر وضعف، وأصله بالهمزة بعد الألف، فحذفها للضرورة‏.‏ ومخامر‏:‏ مخالط وملازم‏.‏ والكلم بالفتح‏:‏ الجرح‏.‏

وأن قد بدا منّي لما قد أصابني *** من الحزن أنّي ساهم الوجه ذو همّ

شديد الأسى بادي الشّحوب كأنّني *** أخو جنّةٍ يعتاده الخبل في الجسم

الساهم‏:‏ المتغير‏.‏ الأسى‏:‏ الحزن‏.‏ والشحوب‏:‏ التغير‏.‏ وجنة بالجيم، هو الجن‏.‏

وروي حية بمهملة ومثناة تحتية، يعني ملسوعاً‏.‏ والخبل، بفتح المعجمة‏:‏ فساد الجسم والعقل‏.‏

لفقد امرئٍ لا يجتوي الجار قربه *** ولم يك يشكى بالقطيعة والظّلم

يعود على ذي الجهل بالحلم والنّهى *** ولم يك فحّاشاً على الجار ذا عذم

لا يجتوي بالجيم، أي‏:‏ لا يكره‏.‏ والعذم، بفتح العين المهملة وسكون الذال المعجمة‏.‏ العض والوقيعة‏.‏

ولم يك فظّاً قاطعاً لقرابةٍ *** ولكن وصولاً للقرابة ذا رحم

وكنت إذا ساجرت منهم مساجر *** صفحت بفضلٍ في المروءة والعلم

هذا خطاب لخالد‏.‏ وساجرت بالجيم، بمعنى عاشرت‏.‏ والسجير‏:‏ العشير والصاحب‏.‏

وكنت إذا ما قلت شيئاً فعلته *** وفتّ بذاك النّاس مجتمع الحزم

وإن تك غالتك المنايا وصرفه *** فقد عشت محمود الخلائق والحلم

كريم سجيّات الأمور محبّب *** كثير فضول الكفّ ليس بذي وصم

أشمّ كنصل السّيف يرتاح للنّدى *** بعيداً من الآفات والخلق الوّخم

جمعت أموراً ينفذ المرء بعضه *** من الحلم والمعروف والحسن الضّخم

المرء‏:‏ مفعول ينفذ، وبعضها فاعله‏.‏

يقول‏:‏ بعض هذه الأمور التي فيك تجعل المرء نافذاً، فائقاً، لا يقدر على كسبها فكيف كلها، وقد اجتمعت فيك‏.‏ والمرء، بكسر الميم، في لغة هذيل‏.‏

لعمر أبي الطّير المربّة غدوةً *** على خالدٍ لقد عكفن على لحم

رواية هذا البيت هنا كذا وقعت، وقال السكري هنا‏:‏ أراد التعجب، أي‏:‏ أي لحم وقعت عليه‏.‏

ويروى‏:‏

لقد قلت للطّير المربّة غدوةً *** على خالدٍ لقد وقعت على لحم

والمربة‏:‏ المقيمة‏.‏ انتهى‏.‏

ولحم امرئٍ لم تطعم الطّير مثله *** عشية أمسى لا يبين من البكم

أراد البكم بفتحتين فخفف‏.‏

فكلاّ وربّي لا تعودي لمثله *** عشية لاقته المنيّة بالرّدم

فلا وأبي لا تأكل الطّير مثله *** طويل النّجاد غير هارٍ ولا هشم

أبعدك أرجو هالكاً لحياته *** لقد كنت أرجوه وما عشت بالرّغم

فوا اللّه لا أنساك ما عشت ليلةً *** ضفيٌّ من الإخوان والولد الحتم

الضفي‏:‏ فعول من ضفا يضفو، إذا كثر‏.‏ والحتم‏:‏ الحق‏.‏

تطيف عليه الطّير وهو ملحّبٌ *** خلاف البيوت وهو محتمل الصّرم

الملحب‏:‏ بفتح الحاء المهملة‏:‏ المقطع‏.‏ والصرم، بالكسر‏:‏ الحي‏.‏

فإنّك لو أبصرت مصرع خالدٍ *** بجنب السّتار بين أظلم فالحزم

لأيقنت أنّ النّاب ليست رزيّةً *** ولا البكر لا التفتّ يداك على غنم

هذا خطاب مع المرأة، يقول‏:‏ إن المصيبة قتل ذاك، ليس المصيبة ناباً تصابين بها‏.‏ ثم دعا عليها‏:‏ لا رزق الله يديك خيراً تلتلف عليه‏.‏

وأيقنت أنّ الجود منه سجيّةٌ *** وما عشت عيشاً مثل عيشك بالكرم

أتته المنايا وهو غضٌّ شبابه *** وما للمنايا عن حمى النّفس من عزم

ما‏:‏ نافية‏.‏ والكرم بالضم‏:‏ العزة‏.‏ والعزم هنا‏:‏ الصبر‏.‏

وكل امرئٍ يوماً إلى الموت صائرٌ *** قضاءٌ إذا ما حان يؤخذ بالكظم

وما أحدٌ حيٌّ تأخّر يومه *** بأخلد ممّن صار قبل إلى الرّجم

والكظم، بالفتح‏:‏ الحلق، وقيل الفم، وقيل مخرج النفس، وأصله بفتحتين فسكن ضرورة‏.‏ والرجم بالفتح‏:‏ القبر، وأصله أيضاً بفتح الجيم فسكن‏.‏

‏؟‏سيأتي على الباقين يومٌ كما أتى على من مضى حتمٌ عليه من الحتم

جزى اللّه خيراً خالداً من مكافئٍ *** على كلّ حالٍ من رخاءٍ ومن أزم

فلست بناسيه وإن طال عهده *** وما بعده للعيش عندي من طعم

وهذا آخر القصيدة‏.‏ والأزم‏:‏ الشدة‏.‏ وإنما سقتها بتمامها لحسنها وانسجامها، ولأن شراح شواهد التفسير زعموا أن البيت الشاهد ليس هو إلا من أبيات أربعة، لعدم اطلاعهم‏.‏

وروى قصة قتله، قال‏:‏ زعموا أن رجلاً من هذيل، كان يقال له‏:‏ وهب بن جابر، هوي امرأة من هذيل، كان يقال لها أم عمرو، فاصطاد يوماً ظبية فقال يخاطبها‏:‏ الوافر

فما لك يا شبيهة أمّ عمرو *** إذا عاينتنا لا تأمنينا

فعينك عينها إذ قمت وسنى *** وجيدك جيدها لو تنطقينا

وساقك حمشةٌ ولأمّ عمرو *** خدلّجةٌ تضيق بها البرينا

ورأسك أزعرٌ ولأمّ عمرو *** غدائر ينعفرن وينثنينا

تضيق من الإضافة‏.‏ والبرين‏:‏ جمع برة، وهي الخلخال‏.‏

ثم خلى سبيها، فبلغ ذلك أم عمرو فعطفت عليه، فاستمكن منها، وكان رسولها إليه أبا ذؤيب الشاعر، فلما أيفع أبو ذؤيب وكان جميلاً، رغبت فيه واطرحت وهباً، ففشا أمرهما في هذيل وقصر عن بعض زيارتها، وأخفى أمرها خشية أن يرصد فيغتال‏.‏

فانطلق إلى ابن أخت له يقال له‏:‏ خالد بن زهير فأخبره بأمر أم عمرو، وقال له‏:‏ هل لك أن تكون رسولي إليها وتعاهدني على أن لا تغدرني‏.‏ فأعطاه خالدٌ مواثيقه واختلف بينهما، فلم تلبث أن عشقت خالداً، وتركت أبا ذؤيب‏.‏

وكان أبو ذؤيب يرسل خالداً إليها فينطلق فيتحدث إليها بحديث نفسه، فإذا انصرف، قال لأبي ذؤيب‏:‏ لم ألج إليها الخبا، وجدتها وسنى‏؟‏‏!‏ وكان ينصرف عنها ملطخاً بالطيب، فارتاب أبو ذؤيب من ذلك، وجعل يمس خده ويشم ثوبه فيجد منه ريح الطيب، وأنكر ذلك خالدٌ من خاله، فقال خالد لأمه، وهي أخت أبي ذؤيب‏:‏ الرجز

يا قوم من لي وأبا ذؤيب *** كنت إذا أتوته من غيب

يشمّ خدّي ويشدّ ثوبي *** كأنّني أربته بريب

من أجل أن يرميني بغيب

فقال له أبو ذؤيب يوماً‏:‏ انطلق إليها يا خالد، فإني أريد أن آتيها الساعة‏.‏ فانطلق خالد إليها، فعانقها، وقضى ما أراد من لهوه وضاجعها، وذهب بهما النوم فجاء أبو ذؤيب بعد ذلك، فأخذ سهمين من سهامه، فوضعهما عند رؤوسهما وأرجلهما ثم انصرف، فلما انتبه خالد عرف السهمين، فأعرض عن أبي ذؤيب إذ عرف أنه قد أيقن بغدره‏.‏

وأقبل أبو ذؤيب على أم عمرو فقال‏:‏ الطويل

تريدين كيما تجمعيني وخالد *** وهل يجمع السّيفان ويحك في غمد

فأجابه خالد من شعر‏:‏

فلا تسخطن من سنّة أنت سرته *** فأوّل راضٍ سيرةً من يسيرها

وجرى بينهما أشعار مذكورة في أشعار الهذليين‏.‏ فلما رأى وهب بن جابر فساد ما بينهما، بعث ابنه عمرو بن وهب، فبذل لأم عمرو ذات يده، فعطفها على نفسه بالطمع، وكان عمرو من أعظم شباب هذيل، واستمسكت بخالد لعشقها إياه، فكان لخالد سرها ولعمرو علانيتها‏.‏

فبينا عمرو عندها ذات يوم إذ أتاها خالد وهي وهو على شرابهما، فقام مستبطناً سيفه فولج عليهما، فضرب رأس عمرو ثم خرج هارباً، فمر بأبي ذؤيب، وأبي خراش، وربيعة بن جحدر، وهم يتصيدون، فقال أبو ذؤيب‏:‏ ما وراءك يا خالد‏؟‏ فقال‏:‏ قتلت عمراً‏.‏ قال‏:‏ قد أوقعتني في شر طويل، عليك بالحزم‏!‏ فبلغ الخبر وهب بن جابر، فركب وركب معه جبار بن جابر في رهطهما، فمروا بأبي ذؤيب وأبي خراش وربيعة بن جحدر، فسألهم عنه فقالوا‏:‏ لم نعلمه، ولكن هل لك في شياه من الأروى‏؟‏ قال‏:‏ ما لي بهن من حاجة‏!‏ ومضوا في طلب خالد حتى لحقوه بجبل يقال له‏:‏ أظلم، فقتلوه، فبلغ ذلك أبا ذؤيب وخراشاً وربيعة ابن جحدر، فعند ذلك قال ربيعة من شعر‏:‏ الطويل

فو اللّه لا ألقى كيومٍ لخالدٍ *** حياتي حتّى يعلو الرّأس رامس

وقال أبو ذؤيب يرثي خالداً‏:‏

لعمر أبي الطّير المربّة في الضّحى *** على خالدٍ لقد وقعت على لحم

ثم جمع أبو ذؤيب رهطه، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل عروة بن جحدر، ونجا خراش بن أبي جحدر، فعند ذلك قال أبو جحدر‏:‏ الطويل

حمدت إلهي بعد عروة إذ نج *** خراشٌ وبعض الشّرّ أهون من بعض

ثم إن القوم تحاجزوا، والقتلى في أصحاب أبي ذؤيب أكثر، فطلبوا خويلداً، وهو أبو خراش ابن وائلة الهذلي، وهو في الحزم، ومعه امرأته فلما علم بأمرهم أمر امرأته أن تسير أمامه، وتقيم بمكان وصفه لها، فأخبرها أن قومه يطلبونه بذحل، فإن أبطأت عليك فانعيني لقومك‏.‏

فقصدوا خويلداً حتى خرج عليهم، فتنكروا له ورحبوا به، ففطن لهم وانصرف راجعاً، فاتبعوه فسبقهم، ورموه بأسهم فلم تصبه‏.‏

فهو حيث يقول‏:‏ الطويل

رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع *** فقلت وأنكرت الوجوه‏:‏ هم هم

هذا ما أورده السكري في آخر أشعار الهذليين‏.‏

وأوردنا القصة هنا لأن فيها أشعاراً فيها شواهد إذا جاءت فيما سيأتي نحيل عليها‏.‏

وكانت هذه الوقعة قبل إسلام أبي ذؤيب وأبي خراش‏.‏ والله أعلم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الشاهد التاسع والأربعون بعد الثلاثمائة الوافر

فإيّاكم وحيّة بطن وادٍ *** هموز النّاب ليس لكم بسيّ

على أن سيبويه استدل به على جر الجوار، رداً على الخليل في زعمه أنه لا يجوز إلا إذا اتفق المضاف والمضاف إليه في أمور ذكرها الشارح المحقق‏:‏ منها اتفاقهما في التذكير والتأنيث، وهذا البيت يرد عليه؛ فإن هموز نعت الحية المنصوبة‏.‏ وجر لمجاورته لأحد المجرورين، وهو بطن وواد‏.‏

وعينه ابن جني في شرح تصريف المازني فقال‏:‏ جر هموز لمجاورته لواد مع اختلاف المضاف والمضاف إليه تذكيراً وتأنيثاً؛ فإن حية مؤنث وما بعدها مذكر‏.‏ وفيه أن كلاً من الحية وما بعدها مذكر‏.‏

أما الحية فقد قال صاحب الصحاح‏:‏ الحية للذكر والأنثى، وإنما دخله الهاء لأنه واحد من جنس، كبطة ودجاجة‏.‏ وفلان حية ذكر‏.‏ على أنه قد روي عن العرب‏:‏ رأيت حيا على حية، أي‏:‏ ذكراً على أنثى‏.‏ انتهى‏.‏

أما البطن فقد قال صاحب الصحاح أيضاً‏:‏ البطن خلاف الظهر، وهو مذكر، وحكى أبو حاتم عن أبي عبيدة أن تأنيثه لغة‏.‏ انتهى‏.‏

وأما الوادي فهو مذكر لا غير، فيجوز للخليل أن يدعي توافق المضاف والمضاف إليه تذكيراً بجعل الحية للواحد المذكر من الجنس؛ وكذلك هموز فإنه فعول يوصف به المذكر والمؤنث، اللهم إلا أن يكتفي س للتخالف بالتأنيث والتذكير اللفظيين‏.‏ وهذا سيبويه لم يستشهد بهذا البيت، وإنما استشهد بقول العجاج‏:‏ الرجز

كأنّ نسج العنكبوت المرمل

ووجه الاستدلال منه أن العنكبوت مؤنث والمرمل مذكر، لأنه وصف للنسج، فقد اختلفا تأنيثاً وتذكيراً‏.‏ وللخليل أن يمنع هذا أيضاً فإن العنكبوت قد جاء مذكراً أيضاً، نقل ذلك عن العرب‏.‏

وأنشدوا‏:‏ الوافر

على هطّالهم منهم بيوتٌ *** كأنّ العنكبوت هو ابتناها

وعلى تسليم أنها في البيت مؤنثة فإنه تأنيث ليس بعلامة، إذ ليس مؤنثاً بالتاء ولا بإحدى الألفين المقصورة والممدودة، فأشبه التذكير إذ لم يظهر فيه من التنافر ما يظهر في التثنية‏.‏

وقد استدل لسيبويه بعضهم بقراءة يحيى بن وثاب والأمش‏:‏ إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين بجر المتين ورد هذا أيضاً باحتمال أن يكون المتين صفة للقوة، لأنها في معنى السبب فذكر على المعنى، فلا يكون من باب الخفض على الجوار‏.‏

وهذا نص سيبويه في باب النعت‏:‏ وقال الخليل رحمه الله لا يقولون إلا‏:‏ هذان جحرا ضب خربان، من قبل أن الضب واحد والجحر جحران، وإنما يغلطون إذا كان الآخر بعدة الأول وكان مذكراً مثله ومؤنثاً‏.‏

وقالوا‏:‏ هذه جحرة ضباب خربة، لأن الضباب مؤنثة، ولأن الجحرة مؤنثة والعدة واحدة، فغلطوا‏.‏ وهذا قول الخليل رحمه الله‏.‏ ولا نرى هذا والأول إلا سواء، لأنه إذا قال‏:‏ هذا جحر ضب متهدم، ففيه من البيان أنه ليس بالضب مثل ما في التثنية من البيان، أنه ليس بالضب‏.‏

قال العجاج‏:‏

كأنّ نسج العنكبوت المرمل

والمرمل مذكر والعنكبوت مؤنث‏.‏ هذا كلام سيبويه‏.‏

وقول الشارح المحقق‏:‏ وقال بعض البصريين‏:‏ إن التقدير‏:‏ هذا جحر ضب خرب جحره الخ، هذا تخريج ابن جني في الخصائص قال فيه‏:‏ الأصل هذا جحر ضب خرب جحره، حذف الجحر المضاف إلى الهاء وأقيمت الهاء مقامه فارتفعت، لأن المضاف المحذوف كان مرفوعاً، فلما ارتفعت استتر الضمير المرفوع في نفس خرب، فجرى وصفاً على ضب، وإن كان الخراب للجحر لا للضب على تقدير‏.‏

وقال السيرافي‏:‏ ورأيت بعض نحويي البصريين قال في هذا جحر ضب خرب، قولاً شرحته وقويته بما احتمله من التقوية‏.‏

والذي قاله هذا النحوي أن معناه هذا جحر ضب خرب الجحر، والذي يقويه أنا إذا قلنا خرب الجحر فهو من باب حسن الوجه، وفي خرب ضمير الجحر مرفوع، لأن التقدير كان خرب جحره‏.‏

ومثله مما قاله النحويون‏:‏ مررت برجل حسن الأبوين لا قبيحين، والتقدير لا قبيح الأبوين وأصله لا قبيح أبواه، ثم جعل في قبيح ضمير الأبوين فثنى لذلك، وأجرى على الأول فخفض، واكتفى بضمير الأبوين ولم يعد ظاهرهما لما تقدم من الذكر‏.‏ انتهى‏.‏

قال أبو حيان، بعد أن نقل قولهما‏:‏ ومذهبهما خطأ من غير ما وجه، لأنه يلزم أن يكون الجحر مخصصاً بالضب، والضب مخصص بخراب الجحر المخصص بالإضافة إلى الضب، فتخصيص كل منهما متوقف على صاحبه، وهو فاسد للدور، ولا يوجد ذلك في كلام العرب؛ أعني لا يوجد مررت بوجه رجل حسن الوجه، ولا حسن وجهه، ولأنه من حيث أجرى الخرب صفة على الضب لزم إبراز الضمير لئلا يلبس، وقد فرق سيبويه بين حسن الوجه وحسن‏.‏

ولأن معمول هذه الصفة لا يتصرف فيه بالحذف لضعف عملها‏.‏ فأما قول الشاعر‏:‏ الطويل

ويضحك عرفان الدّروع جلودن *** إذا جاء يومٌ مظلم الشّمس كاسف

فلا يريد كاسف الشمس، فيكون قد حذف معمول الصفة، وإن كان قد ذهب إليه بعضهم، وإنما هو عندنا صفة لليوم نفسه، لأن الكسوف يكون فيه، فيكون نحو قولهم‏:‏ نهارك صائم وليلك قائم‏.‏

ولأن هذه الصفة لا يجوز نقل الضمير إليها حتى يصح نسبتها إلى الموصوف على طريق الحقيقة‏.‏ ألا ترى أنه لا يصح عندنا مررت برجل حائض البنت، لأن الحيض لا يكون للرجل‏.‏ وكذلك الخرب لا يكون للضب، والمرمل لا يكون للعنكبوت‏.‏ وكذلك همز الناب لا يكون للوادي‏.‏ والذي يقطع ببطلان ما ذهبا إليه قول الشاعر‏:‏ البسيط

يا صاح بلّغ ذوي الحاجات كلّهم *** أن ليس وصلٌ إذا انحلّت عرى الذّنب

وقول أبي ثروان في المفضل كان والله من رجال العرب المعروف له ذلك بخفض المعروف على المجاورة‏.‏ وفي كلام أبي ثروان، وهو ممن تؤخذ عنه اللغة والعربية، رد على من يقول بأن الجوار لا يكون إلا مع النكرة؛ فإن كلاً من البيت، ومن كلام أبي ثروان لا يمكن فيه أن يكون تابعاً للمجرور الذي قبله بحال‏.‏

وتشبيه السيرافي المسألة بنحو قول النحويين‏:‏ مررت برجل قائم أبواه لا قاعدين، تشبيه غير صحيح‏.‏ انتهى كلام أبي حيان‏.‏

وبينه ابن هشام في المغني بعد نقل كلامهما، بأنه يلزم استتار الضمير مع جريان الصفة على غير من هي له، وذلك لا يجوز عند البصريين وإن أمن اللبس‏.‏ وقول السيرافي إن هذا مثل‏:‏ مررت برجل قائم أبواه لا قاعدين، مردود، لأن ذلك إنما يجوز في الوصف الثاني دون الأول‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ولأن هذه الصفة لا يجوز نقل الضمير إليها حتى يصح نسبتها إلى الموصوف، إلى آخره، هذا كلام السيرافي، وهو معترف به، فإنه قال بعد ما نقلناه عنه‏:‏ ولا يشبه عندي‏:‏ وحية بطن واد هموز الناب، على هذه العلة لإنا إذا خفضنا هموز، الناب فهو محمول على واد، وعلى بطن واد، وليس هموز بمضاف إلى شيء إضافته إليه تصححه في التقدير، كما كان تقدير إضافة خرب الجحر توجب تصحيح الخفض‏.‏ انتهى‏.‏

وقد بين الشارح المحقق إضافة هموز إلى ما يصحح إضافته في التقدير، وشرحه بما لا مزيد عليه، وكأنه قصد بهذا البيان الرد على السيرافي‏.‏

واعلم أن قولهم‏:‏ جحر ضب خرب مسموع فيه الجر والرفع، والرفع في كلامهم أكثر‏.‏

قال أبو حيان في تذكرته‏:‏ ينبغي أن لا تجوز مسألة التثنية والجمع، لأن جر الجوار لم يسمع إلا في المفرد خاصة فلا يتعدى فيه السماع‏.‏

وقد قال الفراء وغيره‏:‏ لا يخفض بالجوار إلا ما استعملته العرب كذلك، والمسموع منه ما تقدم وما سيأتي في الشرح من بيت امرئ القيس، وقول دريد بن الصمة‏:‏ الطويل

فجئت إليه والرّماح تنوشه *** كوقع الصّياصي في النّسيج الممدّد

فدافعت عنه الخيل حتّى تبدّدت *** وحتّى علاني حالك اللّون أسود

وأسود نعت لحالك، وجر لمجاورته المجرور‏.‏

وقول آخر‏:‏ البسيط

كأنّك ضربت قدّام أعينه *** قطناً بمستحصد الأوتار محلوج

ومحلوج نعت لقوله قطناً، لكنه جر بالمجاورة‏.‏

وقول ذي الرمة‏:‏ البسيط

تريك سنّة وجهٍ غير مقرفةٍ *** ملساء ليس بها خالٌ ولا ندب

وغير‏:‏ نعت لسنة المنصوبة، وجر للمجاورة‏.‏ وروي بالنصب أيضاً‏.‏

قال الفراء‏:‏ قلت لأبي ثروان، وقد أنشدني هذا البيت بخفض غير‏:‏ كيف تقول‏:‏

تريك سنّة وجه غير مقرفةٍ

قال‏:‏

تريك سنّة وجهٍ غير مقرفةٍ

بنصب غير‏.‏ قلت له‏:‏ فأنشد بخفض غير، فخفض غير، فأعدت عليه القول فقال‏:‏ الذي تقول أنت أجود مما أقول أنا‏.‏ وكان إنشاده على الخفض‏.‏ انتهى‏.‏

قيل‏:‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اشتدَّتْ به الريحُ في يومٍ عاصف‏}‏، لأن عاصف من صفة الريح لا من صفات اليوم‏.‏ وهذا القول للفراء‏.‏ قال‏:‏ لما جاء العاصف بعد اليوم أتبعته إعراب اليوم، وذلك من كلام العرب، أن يتبعوا الخفض الخفض إذا أشبهه‏.‏

قال أبو حيان في تذكرته‏:‏ قد أولت هذه الآية‏.‏ أقول‏:‏ أولها الفراء بتأويلين‏:‏ أولهما وهو جيد‏.‏ قال‏:‏ جعل العصوف تابعاً لليوم في إعرابه، وإنما العصوف للريح‏.‏ وذلك جائز على جهتين‏:‏ إحداهما‏:‏ أن العصوف وإن كان للريح فإن اليوم يوصف به، لأن الريح فيه تكون، فجاز أن تقول يوم عاصف، كما تقول‏:‏ يوم بارد، ويوم حار‏.‏

وقد أنشدني بعضهم‏:‏ الرجز

يومين غيمين ويوماً شمساً

فوصف اليومين بالغيمين، وإنما يكون الغيم فيهما‏.‏

والوجه الآخر‏:‏ أن تريد في يوم عاصف الريح، فتحذف الريح لأنها قد ذكرت في أول الكلمة، كقوله‏:‏

إذا جاء يوم مظلم الشّمس كاسف

يريد كاسف الشمس‏.‏ انتهى‏.‏

وقد تقدم رد هذا في كلام أبي حيان‏.‏

وجر الجوار لم يسمع إلا في النعت على القلة‏.‏ وقد جاء في التأكيد في بيت على سبيل الندرة‏.‏ قال الفراء في تفسيره‏:‏ أنشدني أبو الجراح العقيلي‏:‏

يا صاح بلّغ ذوي الزّوجات كلّهم *** أن ليس وصلٌ إذا انحلت عرى الذّنب

فاتبع كل خفض الزوجات، وهو منصوب، لأنه توكيد لذوي‏.‏ انتهى‏.‏

وزعم أبو حيان في تذكرته وتبعه ابن هشام في المغني أن الفراء سأل أبا الجراح فقال‏:‏ أليس المعنى ذوي الزوجات كلهم‏؟‏ فقال‏:‏ بلى، الذي تقوله خير من الذي نقول‏.‏ ثم استنشده البيت فأنشده بخفض كلهم‏.‏ انتهى‏.‏

والفراء إنما نقل هذه الحكاية في بيت ذي الرمة السابق‏.‏

وهذا البيت لأبي الغريب‏.‏ قال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي‏:‏ هو أعرابي له شعر قليل، أدرك الدولة الهاشمية‏.‏

قال أبو زياد الكلابي‏:‏ كان أبو الغريب عندنا شيخاً قد تزوج، فلم يولم، فاجتمعنا على باب خبائه وصحنا‏:‏ الرجز

أولم ولو بيربوع *** ولو بقردٍ مجدوع

قتلتنا من الجوع

فأولم واجتمعنا عنده، فأعرس بأهله، فلما أصبح، غدونا عليه، فقلنا‏:‏ الرجز

يا ليت شعري عن أبي الغريب *** إذ بات في مجاسدٍ وطيب

معانقاً للرّشأ الرّبيب *** أأحمد المحفار في القليب

أم كان رخواً يابس القضيب

فصاح إلينا‏:‏ يابس القضيب، والله، يابس القضيب‏؟‏‏!‏ وأنشأ يقول‏:‏ البسيط

سقياً لعهد خليلٍ كان يأدم لي *** زادي ويذهب عن زوجاتي الغضبا

كان الخليل فأضحى قد تخوّنه *** هذا الزّمان، وتطعاني به الثّقبا

وقال‏:‏

يا صاح بلّغ ذوي الزّوجات كلّهم *** أن ليس وصلٌ إذا استرخت عرى الّنب

انتهى‏.‏

وأراد باسترخاء عرى الذنب استرخاء الذكر‏.‏

وأما جر الجوار في العطف، فقد قال أبو حيان في تذكرته‏:‏ لم يأت في كلامهم، ولذلك ضعف جداً قول من حمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وامْسَحُوا برؤُوسِكُمْ وأرجِلكم‏}‏، في قراءة من خفض على الجوار‏.‏

والفرق بينه وبين النعت كون الاسم في باب النعت تابعاً لما قبله من غير وساطة شيء، فهو أشد له مجاورة، بخلاف العطف إذ قد فصل بين الاسمين حرف العطف، وجاز إظهار العامل في بعض المواضع، فبعدت المجاورة‏.‏

وذهب بعض المتفقهة من أصحابنا الشافعية إلى أن الإعراب على المجاورة لغة ظاهرة، وحمل على ذلك في العطف الآية الكريمة، وقوله تعالى لم يَكُنِ الذينَ كَفَرُوا مِنْ أهْلِ الكتاب والمُشْرِكينَ مُنْفَكِّين ، قال‏:‏ فخفض المشركين لمجاورة أهل الكتاب‏.‏ وما ذهب إليه يمكن تأويله على وجه أحسن، فلا حجة فيه‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن هشام في المغني‏:‏ وقيل به في وحورٍ عين فيمن جرهما، فإن العطف على ولدانٌ مخلدون لا على أكوابٍ وأباريق، إذ ليس المعنى أن الولدان يطوفون عليهم بالحور‏.‏

وقيل العطف على جنات، وكأنه قيل‏:‏ المقربون في جنات وفاكهة ولحم طير وحور‏.‏ وقيل على أكواب باعتبار المعنى، إذ معنى يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب ينعمون بأكواب‏.‏ انتهى‏.‏

وأما قوله في البدل فقد قال أبو حيان أيضاً‏:‏ لم يحفظ ذلك في كلامهم، ولا خرج عليه أحد من علمائنا شيئاً فيما نعلم‏.‏

وسبب ذلك والله أعلم أنه معمول لعامل آخر لا للعامل الأول على أصح المذهبين، ولذلك يجوز ذكره إذا كان حرف جر بإجماع، وربما وجب إذا كان العامل رافع وناصباً‏.‏

ففي جواز إظهاره خلاف، فبعدت إذ ذاك مراعاة المجاورة، ونزل المقدر الممكن إظهاره منزلة الموجود، فصار من جملة أخرى‏.‏ انتهى‏.‏

وقد آن لنا أن نرجع إلى البيت الشاهد فنقول‏:‏ هو من أبيات للحطيئة، وقد تقدمت ترجمته في الشاهد التاسع والأربعين بعد المائة، مدح بها عدي بن فزارة، وعيينة بن حصن، وحذيفة بن بدر، فقال بعد تسعة أبيات من الغزل‏:‏

فأبلغ عامراً عنّي رسول *** رسالة ناصحٍ بكم حفيّ

فإيّاكم وحيّة بطن وادٍ *** حديد النّاب ليس لكم بسيّ

فحلّوا بطن عقمة واتّقون *** إلى نجران في بلدٍ رخيّ

فكم من دار حيٍّ قد أباحت *** لقومهم رماح بني عديّ

فما إن كان عن ودٍّ ولكن *** أباحوها بصمّ السّمهريّ

وبعد هذا خمسة أبيات أخر‏.‏

وقوله‏:‏ فأبلغ عامراً الخ، قال أبو عمرو‏:‏ يعني عامر بن صعصعة، وهو أبو قبيلة‏.‏ والرسول‏:‏ الرسالة‏.‏ انتهى‏.‏

فيكون على هذا قوله رسالة ناصح بدلاً من رسولاً، وأجود منه أن يكون رسولاً حالاً من ضمير أبلغ‏.‏ والحفي، بالحاء المهملة، هو المشفق اللطيف‏.‏

وقوله‏:‏ فإياكم وحية الخ‏.‏ إياكم محذر، وحية محذر منه، وهما منصوبان بفعلين، أي‏:‏ أبعدوا أنفسكم واحذروا الحية‏.‏ وأراد الحطيئة بالحية نفسه، يعني أنه يحمي ناحيته ويتقى منه، كما يتقى من الحية الحامية لبطن واديها المانعة منه‏.‏ والوادي‏:‏ المطمئن من الأرض‏.‏

وقوله‏:‏ حديد الناب هكذا وقع في رواية ديوانه، وهذا لا يدل على أن المراد بالحية الذكر، لأن حديداً في الأصل مسند إلى الناب، أي‏:‏ حديد نابه‏.‏ والناب من الأسنان مذكر ما دام له هذا الاسم، والجمع أنياب، وهو الذي يلي الرباعيات‏.‏

قال ابن سينا‏:‏ ولا يجتمع في حيوان ناب وقرن‏.‏ كذا في المصباح‏.‏ والحديد‏:‏ القاطع، وروي بالنصب إتباعاً للفظ الحية، والمشهور في رواية النحويين هموز الناب بالجر على المجاورة كما تقدم‏.‏ والهموز‏:‏ فعول من الهمز بمعنى الغمز الضغط‏.‏

وقوله‏:‏ ليس لكم بسي، هذا يدل على تذكير الحية، فإن ضمير ليس عائد إلى الحية، ولو أراد المؤنث لقال ليست‏.‏ والسي بكسر السين المهملة‏:‏ المثل؛ أي‏:‏ لا تستوون، معه بل هو أشرف منكم‏.‏

وقوله‏:‏ فحلوا بطن عقمة الخ، حلوا أمر من الحلول بمعنى النزول‏.‏ وعقمة، بضم العين وسكون القاف، قال أبو عبيد البكري في المعجم‏:‏ هو موضع ما بين ديار بني جعفر بن كلاب وبين نجران‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏

والمعنى‏:‏ اتقونا من ها هنا إلى نجران‏.‏ ونجران‏:‏ مدينة بالحجاز من شق اليمن‏.‏ ورخي‏:‏ بعيد، وقيل واسع مخصب‏.‏

وقوله‏:‏ فكَمْ من دارِ حَيٍّ الخ حي هنا بمعنى القبيلة‏.‏ وأباحت‏:‏ بمعنى جعلته مباحاً‏.‏

وقوله‏:‏ فما إنْ كان عن ودٍّ الخ يقول‏:‏ لم ينزلوا هذه المنازل عن مودة بينهم وبين هؤلاء، ولكن أباحتها لهم رماحهم وسيوفهم‏.‏

وأما بيت سيبويه، وهو‏:‏

كأنّ نسج العنكبوت المرمل

فهو للعجاج‏.‏

وبعده‏:‏

على ذرى قلاّمة المهدّل *** سبوب كتّانٍ بأيدي الغسّل

النسج‏:‏ الغزل‏.‏ والمرمل‏:‏ المنسوج، والمغزول‏.‏ والذرى‏:‏ الأعالي، جمع ذروة بالكسر‏.‏ والقلام‏:‏ بضم القاف وتشديد اللام‏:‏ ضرب من النبت، وضمير قلامه راجع إلى الماء، فإنه في وص ماء ورده‏.‏ والمهدل‏:‏ المدلى‏.‏

والسبوب‏:‏ جمع سب بالكسر، كجذوع‏.‏ والسب‏:‏ ثوب من كتان أبيض‏.‏ والغسل‏:‏ جمع غاسل وغاسلة‏.‏ يعني أن العنكبوت قد نسجت على القلام الذي نبت حول الماء‏.‏ شبه ما نسجت العنكبوت عليه بثوب رقيق من الكتان‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الشاهد الخمسون بعد الثلاثمائة الطويل

كبير أناس في بجاد مزمل

على أن قوله مزمل انجر لمجاورته لأناس تقديراً، لا لبجاد؛ لتأخره عن مزمل في الرتبة‏.‏ فالمجاورة على قسمين‏:‏ ملاصقة حقيقية كما في البيت السابق، وملاصقة تقديرية كما في هذا البيت‏.‏

وفيه رد على شراح المعلقات ومن تبعهم، فإنهم قالوا‏:‏ جر مزملاً على الجوار لبجاد، وحقه الرفع لأنه نعت لكبير‏.‏

وممن تبعهم أبو حيان، قال في تذكرته‏:‏ خفض مزملاً على الجوار للبجاد؛ وهو في المعنى نعت للكبير، تغليباً للجوار‏.‏

ومنهم ابن هشام في بعض تعاليقه قال‏:‏ لما جاور المخفوض، وهو البجاد خفض للمجاورة‏.‏ ولا يخفى أن المجاورة رتبية كانت ولفظية، كافية‏.‏

وما قاله الشارح المحقق لا داعي له‏.‏

ولم يجعل أبو علي هذا البيت من باب الجر على الجوار، بل جعل مزملاً صفة حقيقية لبجاد، قال‏:‏ لأنه أراد مزمل فيه، ثم حذف حرف الجر فارتفع الضمير، واستتر في اسم المفعول‏.‏ انتهى‏.‏

وقال الخطيب التبريزي في شرح المعلقات‏:‏ وفي البيت وجه آخر، وهو أن يكون على قول من قال كسيت جبة زيداً، فيكون التقدير‏:‏ في بجاد مزمله الكساء، ثم تحذف كما تقول‏:‏ مررت برجل مكسوته جبة، ثم تكني عن الجبة فتقول‏:‏ مررت برجل مكسوته، ثم تحذف الهاء في الشعر‏.‏ هذا قول بعض البصريين‏.‏ انتهى‏.‏

ولا يخفى تعسف هذا القول‏.‏ وتخريج أبي علي أقرب من هذا‏.‏

والمصراع عجز؛ وصدره‏:‏

كأنّ ثبيراً في عرانين وبله

والبيت من معلقة امرئ القيس المشهورة‏.‏ وثبير‏:‏ جبل بمكة‏.‏ والعرانين‏:‏ الأوائل، والأصل في هذا أن يقال للأنف‏:‏ عرنين، استعير لأوائل المطر؛ لأن الأنوف تتقدم الوجوه‏.‏ والوبل‏:‏ مصدر وبلت السماء وبلاً؛ إذ أتت بالوابل، وهو ما عظم من القطر‏.‏ وضمير وبله راجع للسحاب في بيت قبله‏.‏

والبجاد بالجيم بعد الموحدة المكسورة، وهو كساء مخطط من أكسية الأعراب من وبر الإبل وصوف الغنم‏.‏ والمزمل‏:‏ اسم مفعول بمعنى الملفف‏.‏

قال الزوزني في شرح المعلقات‏:‏ كأن ثبيراً في أوائل مطر هذا السحاب سيد أناس ملفف بكساء مخطط‏.‏ شبه تغطيه بالغثاء بتغطي هذا الرجل بالكساء‏.‏ انتهى‏.‏

ونقل الخطيب التبريزي عن أبي نصر أن امرأ القيس شبه الجبل، وقد غطاه الماء والغثاء الذي أحاط به إلا رأسه، بشيخ في كساء مخطط‏.‏ وذلك أن رأس الجبل يضرب إلى السواد، والماء حوله أبيض‏.‏ انتهى‏.‏

وقال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات‏:‏ شبه ثبيراً برجل مزمل بالثياب، لأن المطر لما سح ستره‏.‏

وروى المبرد في الكامل تبعاً للأصمعي‏:‏

كأن أبانا في أفانين ودقه *** كبير أناس‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ

وقال‏:‏ أبان‏:‏ جبل‏.‏ وهما أبانان‏:‏ أبان الأسود، وأبان الأبيض‏.‏ وقوله‏:‏ في أفانين ودقه، يريد ضروباً من ودقه‏.‏ والودق‏:‏ المطر‏.‏

قوله‏:‏ كبير أناس الخ يريد مزملاً بثيابه؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيُّها المزَّمّل‏.‏ قُمِ اللَّيل‏}‏، وهو المتزمل، والتاء مدغمة في الزاي‏.‏ وإنما وصف امرؤ القيس الغيث، فقال قوم‏:‏ أراد أن المطر قد خنق الجبل، فصار له كاللباس على الشيخ المتزمل‏.‏ وقال آخرون‏:‏ إنما أراد ما كساه المطر من خضرة النبت‏.‏ وكلاهما حسن‏.‏ وذكر الودق لأن تلك الخضرة من عمله‏.‏ انتهى‏.‏

تتمتان إحداهما‏:‏ لم يذكر الشارح المحقق الرفع على المجاورة، لأنه لم يثبت عند المحققين، وإنما ذهب إليه بعض ضعفة النحويين في قوله‏:‏ البسيط

السّالك الثّغرة اليقظان كالئه *** مشي الهلوك عليها الخيعل الفضل

أولهم الأصمعي، ذكره علي بن حمزة البصري في كتاب التنبيهات على أغلاط الرواة قال‏:‏ سأل الرياشي الأصمعي عنه فقال‏:‏ الفضل من نعت الخيعل، وهو مرفوع، وأصله أن المرأة الفضل، هي التي تكون في ثوب واحد، فجعل الخيعل فضلاً لأنه لا ثوب فوقه ولا تحته، كما يقال امرأة فضل‏.‏

قال الرياشي‏:‏ وهذا مما أخذ على الأصمعي‏.‏ ثم رجع عن هذا القول وقال بعد‏:‏ هو من نعت الهلوك، إلا أنه رفعه على الجوار كما قالوا‏:‏ جحر ضب خرب‏.‏ انتهى‏.‏

ومنهم ابن قتيبة، قال في أبيات المعاني‏:‏ الثغرة والثغر سواء، وهو موضع المخافة‏.‏ والكالئ‏:‏ الحافظ‏.‏ والخيعل‏:‏ ثوب يخاط أحد جانبيه، ويترك الآخر‏.‏ والهلوك‏:‏ المتثنية المتكسرة‏.‏ والفضل من صفة الهلوك، وكان ينبغي أن يكون جراً، ولكنه رفعه على الجوار للخيعل‏.‏

ومثله‏:‏

كأنّ نسج العنكبوت المرمل

ومثله جحر ضب خرب‏.‏

مثله‏:‏

كبير أناسٍ في بجادٍ مزمّل

وأراد أنه آمن لا يخاف، فهو يمشي على هينته‏.‏ انتهى‏.‏

وقد رد العلماء هذا القول، منه ابن الشجري في أماليه قال‏:‏ وزعم بعض من لا معرفة لهم بحقائق الإعراب، بل لا معرفة لهم بجملة الإعراب، أن ارتفاع الفضل على المجاورة للمعرفة، فارتكب خطأً فاحشاً، وإنما الفضل نعت للهلوك على المعنى، لأنها فاعلة من حيث أسند المصدر الذي هو المشي إليها، كقولك عجبت من ضرب زيد الطويل عمراً، رفعت الطويل لأنه وصف لفاعل الضرب وإن كان مخفوضاً في اللفظ‏.‏

فلو قلت‏:‏ عجبت من ضرب زيد الطويل عمرو فنصبت الطويل لأنه نعت لزيد على معناه من حيث هو مفعول في المعنى، كان مستقيماً، كما عطف الشاعر عليه المنصوب في قوله‏:‏ الرجز

قد كنت داينت بها حسّان *** مخافة الإفلاس واللّيّانا

ومثل رفع الفضل على النعت للهلوك رفع المظلوم على النعت للمعقب، في قول لبيد يصف الحمار والأتان‏:‏ الكامل

يوفي ويرتقب النّجاد كأنّه *** ذو إربة كلّ المرام يروم

حتّى تهجّر في الرّواح وهاجه *** طلب المعقّب حقّه المظلوم

يوفي، أي‏:‏ يشرف‏.‏ والنجاد‏:‏ جمع نجد، وهو المرتفع‏.‏ أي‏:‏ يشرف على الأماكن المرتفعة، كالرقيب، وهو الرجل الذي يكون ربيئة القوم، يربض على نشز متجسساً‏.‏ والإربة‏:‏ الحاجة‏.‏

وقوله‏:‏ حتى تهجر في الرواح أي‏:‏ عجل رواحه فراح في الهاجرة‏.‏ وهاجها، أي‏:‏ هاج الأتان وطردها وطلبها مثل طلب الغريم المعقب حقه؛ فالمعقب فاعل الطلب‏.‏ ونصب حقه لأنه مفعول الطلب‏.‏ والمظلوم للمعقب على المعنى، فرفعه لأن التقدير طلبها مثل أن طلب المعقب لمظلوم حقه‏.‏ والمعقب‏:‏ الذي يطلب حقه مرة بعد مرة‏.‏ انتهى‏.‏

ومنهم أبو حيان في تذكرته قال في أولها‏:‏ قال بعض معاصرينا‏:‏ أكثرهم يعتقد الجوار مخصوصاً بالمجرور، وقد جاء في المرفوع، وأنشد‏:‏ السالك الثغرة اليقظان كالئها‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت قال‏:‏ رفعوا الفضل إتباعاً لما قبله لقربه‏.‏

قال أبو حيان‏:‏ قلت‏:‏ وليس الرفع كما ذكر اتباعاً للخيعل، بل رفعه على النعت للهلوك على الموضع، لأن معناه‏:‏ كما تمشي الهلوك الفضل‏.‏ وعليها الخيعل حال معمولة لتمشي، وجملة اعتراضية‏.‏ انتهى‏.‏

واليقظان بالنصب‏:‏ صفة للثغرة‏.‏ وكالئها فاعل اليقظان، ومشي مفعول مطلق، أي‏:‏ مشياً كمشي الهلوك‏.‏ والفضل بضمتين‏:‏ المرأة التي عليها قميص ورداء، وليس عليها إزار ولا سروايل‏.‏

وقال الفراء والحسن السكري في الهذليات‏:‏ الفضل‏:‏ ثوب كالخيعل تلبسه المرأة في بيتها‏.‏ وعلى هذا فلا مجاورة ولا إتباع على المحل‏.‏ يقول‏:‏ هذا من شأنه سلوك موضع المخافة متمكناً غير خائف، كمشي المرأة المتبخترة الفضل‏.‏

وقد تقدم الكلام على هذا البيت في حملة شرح قصيدته في الشاهد الثاني والثلاثين بعد الثلاثمائة‏.‏

ثانيتهما‏:‏ قد ضرب المثل بخفض مزمل في كون الشريف يعاشر دنيئاً فيسفل بعشرته‏.‏

قال الأمين المحلي‏:‏ الطويل

عليك بأرباب الصّدور فمن غد *** مضافاً لأرباب الصّدور تصدّراً

وإيّاك أن ترضى صحابة ناقص *** فتنحطّ قدراً من علاك وتحقرا

‏؟‏فرفع أبو من ثمّ خفض مزمّل يبيّن قولي مغرياً ومحذّرا وأورد ابن هشام هذا الشعر في مغني اللبيب في الأمور التي يكتسبها الاسم بالإضافة‏.‏ منها‏:‏ وجوب التصدر، ومما له الصدارة كلمات الاستفهام يجب أن تتصدر في جملتها، فإذا أضيف إليها اسم وجب تصدره أيضاً، وحيئذ لا يعمل ما قبله فيه، ولهذا وجب الرفع في قولك‏:‏ علمت أبو من زيد‏.‏ وإليه الإشارة بقوله‏:‏ فرفع أبو من‏.‏

والإشارة بقوله‏:‏ ثم خفض مزمل إلى بيت امرئ القيس الذي شرحناه‏.‏ وقوله‏:‏ مغرياً راجع إلى قوله أولاً عليك بأرباب الصدور، وقوله‏:‏ ومحذراً راجع إلى قوله ثانياً‏:‏ وإياك أن ترضي صحابة ناقص‏.‏

فإن قيل‏:‏ قوله‏:‏ يبين قولي الخ لا يصح أن يكون خبراً عن مجموع قوله‏:‏ فرفع أبو من ثم خفض مزمل، إذ لم يقل يبينان‏.‏ ولا عن أحدهما لاشتمال الجملة على قيد لا يصح تعلقه بكل منهما‏.‏ وذلك أن رفع أبو من لا يبين قوله مغرياً ومحذراً، وإنما يبين قوله مغرياً، وكذا الثاني‏.‏

أجيب بأن قوله‏:‏ يبين قولي فقط هو خبر الأول، وخبر الثاني محذوف وأن قوله مغرياً ومحذرا قيدان للمحذوف، والتقدير فرفع أبو من يبين قولي، وخفض مزمل كذلك، هما يبينان قولي مغرياً ومحذرا‏.‏ ومثل هذا الشعر قول ابن حزم الظاهري‏:‏ الطويل

تجنّب صديقاً مثل ما واحذر الذي *** يكون كعمرو بين عربٍ وأعجم

فإنّ صديق السّوء يزري وشاهدي *** كما شرقت صدر القناة من الدّم

قال ابن هشام في المغني في المبحث الذي تقدم ذكره‏:‏ مراده بما الكناية عن الرجل الناقص، كنقص ما الموصولة‏.‏ وبعمرو الكناية عن المتزيد الآخذ ما ليس له، كأخذ عمرو الواو في الخط‏.‏

وقال في موقد الأذهان وموقظ الوسنان وهي رسالة له، بعد أن ذكر أنه سئل عن الأبيات‏:‏ يريد بالصديق الذي كعمرو المستكثر بما ليس له، فإن عمراً قد أخذ الواو في الخط في الرفع والجر، وليس داخلة في هجائه، ومن ثم نسب الشعراء إلحقها له إلى الظلم‏.‏

قال الشاعر‏:‏ الخفيف

أيّها المدّعي سليماً سفاه *** لست منها ولا قلامة ظفر

إنّما أنت من سليم كواو *** ألحقت في الهجاء ظلماً بعمرو

وأما المشار إليه بما فهو الصديق الناقص، وذلك على أنه يريد ما الموصولة، فإنها مفتقرة إلى صلة وعائد؛ وما الاستفهامية، فإنه تنقص حرفاً إذا دخل عليها الجار‏.‏

وهذا أحسن من قوله في المغني كنقص ما الموصولة لأن ما الناقصة أعم من الموصولة لشمولها الاستفهامية‏.‏ وأما الموصوفة فهي كالموصولة‏.‏

وأما الشاهد الذي أشار إليه ابن حزم فهو قول الأعشى ميمون، من قصيدة‏:‏ الطويل

وتشرق بالقول الذي قد أذعته *** كما شرقت صدر القناة من الدّم

وبيانه أن الفعل إنما تلحقه التاء إذا كان الفاعل مؤنثاً، ولا يجوز قالت زيد، فكان ينبغي أن لا يجوز كما شرقت؛ لأن الصدر مذكر، لكنه لما أضافه للقناة سرى منها التأنيث إليه‏.‏

وعكس ذلك قوله‏:‏ البسيط

إنارة العقل مكسوفٌ بطوع هوىً *** وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا

فكان ينبغي أن يقول مكسوفة؛ لأن الإنارة مؤنثة، ولكنه لما أضافها إلى العقل سرى إليها منه التذكير‏.‏

والمين المحلي من الفضلاء المصرية؛ له تأليفات في علم العروض‏.‏ والمحلة‏:‏ كورة بمصر القاهرة‏.‏